«هل هناك فلسفة عربية معاصرة؟» لم يكن هذا التساؤل الذي عنون به الدكتور سعد البازعي إحدى مقالات كتابه (قلق المعرفة) سؤالاً استفهامياً بقدر ما كان تقريرياً، خلص به إلى أن الجهود العربية المعاصرة لم تكن إلا مجرد شروحٍ و تهميشات على الفلسفات الأخرى، فلم تكن تلك الاشتغالات العقلية المعاصرة إلا جهوداً فكرية مميزة وليست فلسفاتٍ بالمعنى الدقيق، حيثُ أن هذه الاشتغالات العقلية عزفت طوعاً أو كرهاً عن الأسئلة التي تطرحها الفلسفة عادةً، وهذا ما يؤكده أركون حين رفض أن يُخلع عليه لقب فيلسوف واكتفى بنعت نفسه ب «المفكر « أو «الباحث».
إن غياب الفلسفة حتى عن أكثر المناطق العربية سبقاً ميادين الفكر و الثقافة والانعتاق من القيود كمصر ولبنان وسوريا مثلاً ليدل على إشكالية تاريخية مزمنة تكتنف الفلسفة كعلم عقلي مثير للجدل منذ قرونٍ خلت.
وفي هذا الصدد يجب التفريق بين الفلسفة التي هي اشتغال عقلي مرتبط بالأسئلة الوجودية الكبرى والعقلانية التي هي منهج تفكير يتخذ من العقل والاستنباط معيارا للحقيقة بدلا من المعايير الحسية والتي تُفضي (أي العقلانية) بحالٍ من الأحوال إلى الفلسفة التي هي علمٌ عقلي، لذا أستطيع القول أن العقلانية آلية و الفلسفة ماهية، بمعنى أن العقلانية هي الوعاء والفلسفة الماء إن صح التعبير، و إن كان الماء ضروري لحياة الإنسان الفسيولوجية فإن الفلسفة أحد مقومات استمرار العقل الفلسفي الخلاق، تماماً كذاك العقل الفعال لدى الخاصة - الفلاسفة_ وفقاً لرؤية الفيلسوف العربي ابن رشد.
ولعل المهتم بالشأن الثقافي يعي تماماً ذلك الصراع بين المنقول والمعقول والذي أفضى بإيعاز أيدولوجي وغطاء اجتماعي فيما مضى إلى القضاء على العقل الفلسفي و رجحان كفة المنقول و تمدده و سيطرته على العقل الإنساني، ومن ثم سيادة نسق سلوكي واجتماعي مشترك، و هو ما أسماه دور كايم بالجبر الاجتماعي حيث ينشأ الفرد بالشكل الذي يقتضيه مجتمعه بشكل يجعله عاجزاً عن الخروج عن رؤى وتصورات ومعتقدات هذا المجتمع، أي طغيان العقل بالملكة - المعقولات بالفطرة والطبع_ على العقل الفلسفي الفعّال ومن ثم غياب الإبداع لصالح النمط الواحد.
لذا بقي مفكرونا في إطار الاشتغال العقلي مع أن هذا الأخير - الاشتغال العقلي_ لم يسلم من الإقصاء و التهميش و الطعن، ولعل المتتبع للفكر العربي المعاصر يعي ما تعرّض و يتعرض له المفكرين ذوي النزعة العقلانية من قدحٍ و إقصاء على الرغم من أن الكثير من هؤلاء ذوي خلفيات محافظة.
و لعل في هذا إشارة إلى تنمّر و إيغال في الانكفاء لدرجة رفض الاشتغال العقلي حتى على أرضية مشتركة.
ولعلي أخلص إلى القول بأن غياب الفلسفة المعاصرة يعود إلى:
1- تحرّك المفكرين العرب من إطار ثقافي اجتماعي نسقي - من حيث لا يشعرون- حجبهم عن الاشتغال العقلي الفلسفي بمفهومه الدقيق.
2- تورّع البعض عن الخوض فيما قد يتقاطع سلباً مع إيمانهم كما يعتقدون، نظراً للطبيعة العربية المتدينة حيث رأينا أن هناك من سعى منهم لأسلمة بعض النظريات الفلسفية.
3- تحوّط البعض لأنفسهم نأياً عن السخط الاجتماعي النسقي أو الأيدولوجي النقلي.
الرياض