هذا المقال هو امتداد للمقالة السابقة التي نُشرت في عدد الخميس الماضي تحت عنوان «غباء الببغاء»، فبعد أن تحدثتُ عن غباء شبيه الببغاء، الذي يردد ما يمليه عليه ملقنوه دون فَهم، أريد أن أتحدث اليوم عن غباء أشد منه بكثير، وهو خضوع الأذكياء للأغبياء.
ليس هناك ذلة ولا هوان ولا انحطاط أفظع من خنوع الذكي واستسلامه لما يفرضه عليه الأغبياء والبُلْه، الذين لا يعرفون ما يدخل في أمِّ أدمغتهم ولا ما يخرج منها.
ليس هناك فَرق بين الذكي والغبي إلا إذا استطاع الذكي الخروج من دوائر تفكير الحمقى وبلداء الفكر، أما إذا انتصرت عليه العوامل العاطفية والقيود الرجعية والظروف الاجتماعية وغيرها؛ فمنعته من الخروج من تلك الدوائر الضيقة والتحليق في أفق الحرية الواسع، فليس لذكائه فائدة كاملة أو قيمة حقيقية مرجوّة النفع.
لا أدري كيف يقبل الذكي أن يبقى أسيراً للغباوة والجهل والخرافة والخزعبلات والأكاذيب والسخافات التي يرجم بأحجارها نفسه وعزته ومجده وشموخ عقله بوصفه إنساناً ذكياً مميزاً، أو إنساناً يُفترض أن يكون مميزاً عظيماً بذكائه.
إن عجبي لا يكاد ينقضي من أولئك العباقرة الأساتذة النوابغ الذين حصلوا على أعلى الشهادات العلمية، وهم يهذون علينا في المجالس ويدندنون في وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً بأتفه الحماقات التي رسَّخها فيهم - دون اقتناع حقيقي بها - التلقينُ والتعويدُ القائمان على الذعر من مخالفة المسيطر والمعروف.. والأعجب من ذلك هو رفضهم لاستماع أي صوت معارض لقناعاتهم الهشة الركيكة، التي تفتقد الكثير من مقومات الطرح العقلاني الرشيد.
ليس هناك أصغر حجماً ولا أقلّ قدراً من إنسان يرفض الرأي الآخر وهو لم يسمعه أصلاً ولم يسمح له بالوصول إلى عقله المنغلق بشكل صحيح ومستوعَب؛ بحجة أنه يحوم حول حمى أمور مقدسة لا تقبل النقد ولا الرفض ولا الاعتراض ولا مجرد النقاش عنده.
إنه لمن أرذل وأعجب وأشنع وأبشع غوايات الإنسان وحماقاته وغباواته التي لا تنتهي تسليمه بصحة ما لم يفكر بجديّة في سلامته وصحته، وإن عقله ليبدو - والحال كذلك - أقذر من سلة مهملاته التي يلقي فيها نفاياته، سواء شعر بذلك أم لم يشعر.
مزِّقوا أيها الناس أكفان أذهانكم المدفونة في مقابر دكتاتورية الرأي، وانقدوا كلَّ ما يعتبره المجتمع مسلَّمات أو ثوابت لا تقبل النقاش، وطالبوا بأصوات عالية بحرية التفكير في كلِّ شيء، وبحرية إبداء الرأي في أي شيء، وبحق التعبير عن جميع القناعات.
إن غيابَ حرية التفكير وانخفاض سقف حرية التعبير في مجتمعنا ناتجٌ من أسباب كثيرة، منها - بل على رأسها - التشعب أو الانقسام الحاصل في تعريفاتها، أي في تعريف حرية التفكير وحرية الرأي وحق التعبير واختيار القناعات.. وإن ذلك التشعب لا يعود - في نظري - إلى عسر مدلول تلك المفردات بقدر عودته إلى التصادم العنيف الحاصل بين المستخدمين لها من ناحية، وإلى ازدواجية الإنسان في تطبيق مدلولها عند طرح رأيه من ناحية أخرى.
فعندما يريد الواحد منا ممارسة أحد صور الحرية التعبيرية التي يراها حقاً مشروعاً له حسب فهمه الخاص لها، أو التي يراها حاجة ضرورية تلح عليه في موقف معين حتى وإن لم يكن مقتنعاً تماماً بأنها حق من حقوقه في ذلك الموقف، فإنه قد يتصادم مع فَهم الآخرين لحرية الرأي وتطبيقهم لذلك الفَهم الذي يرونه صواباً على الأرض نفسها التي يريد هو ممارسة حريته عليها؛ ما يتسبب في زحام طبيعي لمركبات الطرح في شوارع الفكر، بشكل فوضوي لم ولن يستطيع البشر التكيف معه أو تنظيم حركته المرورية في طرقاتهم الثقافية أبداً.
وقس على تناحر حريات التعبير وتنافرها أموراً عديدة أخرى، كتعدد مزاعم الناس حول معرفة الحقائق - إن كانت معرفتها اليقينية ممكنة أصلاً - وجزم كل فرد أو جماعة منهم بصحة مواقفه أو مواقفهم حولها، سواء كانت تلك المواقف نتيجة اقتناع حقيقي أو نتيجة تقليد أعمى.
وقس عليه أيضاً كثرة معايير الصواب والخطأ واختلاف الناس في اختيار الأنسب منها، ثم في تحديد الآليات السليمة لعمل تلك المعايير بعد اختيارها.
الحياة معقدة جداً في نظري، وأشدها تعقيداً هو ما أنا بصدده هنا؛ فلا بد - بناء على ذلك التعقيد - من تناقض الشخص مع نفسه أحياناً؛ بل كثيراً، ولا بد أيضاً من تناقضه مع الناس وتصادمه معهم في الرؤى والأطروحات الفكرية وغيرها، مثلما يتصادم مع كل ما يحيط به من كائنات حية أو غير حية في هذا الوجود المضطرب؛ لأن هذه طبيعته - أي الإنسان - التي وُجد وجُبل عليها، ولأن هذه أيضاً هي طبائع وخصائص ما ومَن يحيط به.
الكائنات الحية تتصارع من أجل البقاء، وكذلك الأفكار يجب أن تتصارع من أجل البقاء أيضاً، والبقاء للأقوى المستند إلى الأدلة والبراهين والحجج التي ترحب بها العقول السوية الحرة لا المؤدلجة المغيَّبة الخانعة.
إن الإنسان الذي يملك قدراً عالياً من العبقرية، ثم لا يستطيع توظيفها بالشكل الصحيح، عن طريق التفكير العقلاني الصادق المتجرِّد من كلِّ أشكال العواطف التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. إن هذا الإنسان مسكين محروم من استغلال طاقات عبقريته المخزونة في ذاته. إنه فاشل سواء علم أم لم يعلم. إنه كالباصق على عبقريته بقذارة ما ينطق به أو يكتبه من التفاهات والغباوات، حتى وإن شعر بشيء من السعادة والراحة، فالفرق شاسع والبون واسع بين الإيمان الصحيح والإيمان المريح.
يعتقد البعض أن التوفيق بين الرغبات الإنسانية الجامحة في التعبير عن القناعات المتعارضة أمرٌ ممكن في ساحة الحوار، فيقولون مثلاً: «حريتك في التعبير عن رأيك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين في التعبير عن آرائهم».
والصواب عندي في ذلك أن يُقال: (حريتي الفكرية لا تنتهي عند حرية الآخرين) بل أتصادم معهم ثقافياً ومعرفياً، وأقارعهم بالحجج والأدلة فوق أرض الاحترام المتبادل وتحت مظلة آداب الحوار.. والرأي الأقوى في براهينه سينتصر على الأضعف في نهاية المطاف، وسيبدو أكثر إقناعاً للمتلقي العقلاني المنصف، مهما طال أمد تلك المناظرات والحوارات والمقارعات.
الرياض