توقفت في الجزء الأول من هذه المشاهد عند مشهد حضاري يلحظه المرء في كل لحظة من لحظات تجوله في تلك المدن، وهو تلك الانسيابية اللافتة في شوارع المدينة، رغم كثرة السيارات وضيق الطرقات، وواضح أنَّ المسؤولين هناك اتَّخذوا عدداً من الاستراتيجيات التي كفلت لهم حل أي ازدحام متوقع، وأعتقد أن ذلك يتلخص في جملة من الأمور؛ الأول: تعدد وسائل النقل، وعدم حصرها في السيارة فقط، فهناك تَجد الحافلات الضخمة ذات الطابق الواحد والطابقين، مجهزة بأحدث وسائل الراحة ولوازم السلامة، كما أنَّ استخدامها اقتصادي بالدرجة الأولى، إضافة إلى مواقفها المتعددة المنتشرة في أنحاء المدينة، وكثرتِها اللافتة مِمَّا يَجعل تفويت أحدها ليس مُهِمَّا؛ لأنَّ الأخرى ستكون في انتظارك، وفي وقتٍ لا يتجاوز عشر دقائق بأي حال.
ثم إن هناك الدرَّاجات الهوائية التي تمتلئ بها الشوارع والطرقات، وكنت أعتقد أن الطلاب فقط هم الذين يستخدمون هذا النوع من النقل، غير أن هذا الاعتقاد قد تلاشى لما رأيت آباء وأمهات وعائلات مع أبنائهم يَمتطون هذه الدراجات، يساعدهم في ذلك الأجواء البديعة التي تغريك بهذا النوع من القيادة، إضافة إلى التسهيلات التي تقدم إلى مستخدمي الدراجات من خلال إعطائهم الأولوية في الطريق، وتخصيص مسار محدد لهم في جميع الطرق، والأجمل من ذلك تقيد أصحاب السيارات بهذا النظام، ثم لا تنسَ الاستغناء عن الوقود وقطع الإصلاح المكلفة؛ مما يجعل من قيادة الدراجة الخيار الأفضل والأسهل والأكثر اختصارا للوقت.
كما يوجد في بعض المدن البريطانية وسيلة أخرى من أهم وسائل النقل التي تخفف من الازدحامات المرورية، وتقوم بخدمة المواطنين بشكل كبير، خصوصا في تلك المدن الكبرى التي يزيد فيها عدد السكان نسبيا، وتجتذب النسبة الأعلى من السياح، وهي قطارات الأنفاق التي تتميز بها عاصمة الضباب، وتتمدد لتغطي كل جزء من أجزاء المدينة، ويساعد على الإقبال على هذا النوع من وسائل النقل اقتصادية قيمتها، ودقة مواعيدها، ووضوح التعامل معها، وسهولة استخدامها، حيث لا يجد المرء صعوبة في التنقل بها، ثم إنها تتميز بسرعة فائقة، حيث لا يستغرق التنقل بها من محطة إلى التي تليها أكثر من خمس دقائق.
الثاني: ثقافة الشعب ووعيهم بأهمية النقل، وإدراكهم بأن استخدام مثل هذه الوسائل لا حرج فيه، بل هو ضرورة كبرى لتخفيف الزحامات المرورية، والإفادة من القيمة الاقتصادية لهذا الاستخدام، ولا شك أن أهمية وجود هذه الثقافة تساعد على الإفادة من التسهيلات المقدمة لهذه الوسائل لتكون خيار النقل الأفضل لسكان المدينة، أما ثقافة العيب التي نتميز بها، واعتقادنا بأن استخدام مثل هذه الوسائل من خوارم المروءة! وظننا أن الاستعانة بها ينقص من قيمتنا أمام الناس، فهي من أسباب هذه التكدسات المرورية التي نشهدها في كل زمان ومكان، ولعل هذه الثقافة هي جعلتنا لا نهتم بتفعيل خدمة الحافلات من خلال وضع آليات واضحة لهذه الخدمة، وتجهيز الطرق الخاصة بها، أما الدراجات فثقافتنا تأباها أشد من الحافلات، حتى لو كانت أجواؤنا معتدلة، أما قطارات الأنفاق فهي كالغول والعنقاء، ولا أظن أننا سنصل إلى هذه الوسيلة إلا بعد زمن ليس بالقصير.
الثالث: الوعي بأهمية الرياضة، وتحريك الأجساد المثقلة بالشحوم، فهناك ترى الاهتمام بالمشي والجري من الأولويات، كما أن ركوب الدراجة يعد من أهم ممارسات الرياضة، إذ تبدأ يومك بهذا النشاط الذي يجدد جسدك وروحك وفكرك، وفي الوقت نفسه هي وسيلة نقل سهلة لا تحتاج وقودا ولا إصلاحا، ولا أعتقد أن هذه الثقافة موجودة لدينا بوضوح حتى لو كانت أجواؤنا تساعد على ذلك، فالثقافة تحتاج إلى وقت لتترسخ، وإلى شعب واعٍ يدرك أهمية مثل هذه الأمور في الحياة اليومية.
الرابع: الالتزام التام بالتعليمات، والتقيد بالأنظمة والقوانين التي تفرضها الحكومة والمؤسسات الأمنية على الشعب، وعدم التهاون في فرض العقوبات الصارمة على كل من يخالف هذه الأنظمة أيا كان، وهو ما يشعر الجميع بالمسؤولية والعدل والرضا، ومن ثم الالتزام بذلك، وقد حاولت أثناء توجهي إلى مطار (هيثرو) أن أبحث عن سيارة لم يلتزم صاحبها بربط حزام الأمان فلم أتمكن من ذلك، وهو شيء يُفترض ألا يُتعجَّب منه، لكنه غريب مقارنة بثقافة شعبنا الذين لم يتعودوا على تطبيق النظام، ليس قصورا فيهم، وإنما لعدم جدية النظام، وبروز المحسوبيات، وضبابية كثير من هذه الأنظمة، وجهل العديد من المواطنين بها.
إن بلادنا الحبيبة في أشد الحاجة إلى الأخذ بِهذه الاستراتيجيات والعمل بِها، والإفادة منها، خصوصاً في ظل اتساعها المستمر، وترامي أطرافها، وتزايد هذه الازدحامات، وطول أوقات الانتظار، وكثرة الشكوى والتذمر من التأخر عن الحضور إلى العمل صباحاً، أو العودة إلى المنزل في المساء، والأدهى من هذا وذاك التأخ ر الذي يَحصل لسيارات الإسعاف أو الهلال الأحمر أو الدفاع المدني، مما يتسبب في هلاك الأنفس ودمار الممتلكات.
Omar1401@gmail.com
الرياض