-1-
تعدّ ممارسةُ الإقصاء إحدى السمات الغالبة على المرحلة السابقة (مرحلة ما قبل الحادي عشر من سبتمبر)، وهي تعبِّر بطبيعتها عن فكر سائد في دائرة معيّنة (ليس فكراً واحداً بالضرورة)، يرفض التفاوضَ مع الفكر المخالف؛ إما لأنه يرى في نفسه الفعلَ الأوّلَ والرئيسَ (كما في حالة الفكر السائد في مجتمعنا)، وإما لأنه يرى في وجوده ردَّ فعل له (كما في حالة الاتجاهات الفكرية المناهضة للفكر السائد، التي لم تكن تَضْمن لنفسِها الحركةَ - قبل هذا التاريخ - إلا في دوائر نخبوية مغلقة، ومعزولة إلى حد كبير عن كلّ شيء، بما في ذلك الوسائل الإعلامية).
وبعيداً عن كلِّ ما قيل في توصيف هذه الممارسة، فإنها تستند – في جانب من أهمّ جوانبها – إلى وعي، يؤمن بخضوع القيم والأشياء لمنطق القوة والغلبة والسيطرة مادياً ومعنوياً، ويمكن أن نتلمّس نتوآته الأولى في تراثنا الأدبي، من مثل : «ومن لايظلم الناس يظلم «، و» إنما العاجز من لا يستبدّ «، إلا أنه بعد التطوّر الفكري الذي شهدته الأمة في العصور الأولى من نهضتها، أخذ هذا الوعي ينمو بفضل محاولات الشرعنة التي أحاطت به؛ لمعطى سياسي في الغالب، أو لمعطيات أخرى يمكن أن نسمّي كلّ واحد منها على حدة، لكنها - من حيث الجملة - لا تستقلّ بنفسها عمّا سبق.
وعلى الرغم من أنّ للعصر الحديث وضعه الخاص في هذا السياق، إلا أنه - من حيث الجملة - امتداد لذلك الوعي المتشكّل في بيئة بدائية، ثم هو امتداد للشرعنة الفكرية التي أخذت تنمو من مرحلة زمنية إلى أخرى، ومن هنا يمكن أن نفسّر مراهنةَ الأنظمة العربية القمعية البائدة على (حالة الطوارئ) في المستوى السياسي، وتسويغَها إياها بمسوِّغات غير مقنعة، كالحفاظ على هيبة الدولة، وقوّتها، وحفظ أمنها، ووحدتها، ومصالحها، ودرء الفتنة عنها...، وعلى هذا الأثر يمكن أن نُمْضيَ حالاتٍ أخرى من الإقصاء، كالإقصاء الثقافي من أجل (الحفاظ على الهُويّة)، والإقصاء الاجتماعي من أجل (مراعاة الذوق العام، والأعراف، والتقاليد، أو مراعاة المدنية)، هذا بالإضافة إلى حالات أخرى يتمّ الترويج لها، بقصد الحفاظ على نقاء الدين، وروح العلم، ومتطلبات المصلحة العامة، وما إلى ذلك...، وتحت كلّ حالة من هذه الحالات، معطيات لا يمكن أن تفضي بنا إلى غير الإقصاء (أتحدث هنا عن استثمار هذه الحالات وتوظيفها، وليس عن وجودها من حيث هو) !
-2-
يتحدث كثيرٌ من الراصدين عن الإقصاء، لكنّ حديثَهم يستهدف أنماطاً محدودةً منه، كإقصاء فرد لفرد (في واقعة ثقافية معيّنة)، أو أفراد لأفراد، أو تيار لآخر، أو إقصاء مؤسسة ذات بعد (أو متكأ) سياسي لمن يختلف معها...، في حين لا يتوجه الحديثُ إلى نمط من الإقصاء، يمكن أن أصفه بالأخطر على الإطلاق، ألا وهو إقصاء مؤسسة علمية لأخرى، بشكل دون المستوى (الرسمي)، لكنه فوق ما يُعرف ب (الاجتهاد الفردي)، الذي يُحال – عادةً - إلى شخص بعينه، أو إلى مرحلة زمنية بعينها !
ولقد وصفته ب (الأخطر)؛ لأنّ الجامعة (أيّ جامعة) مسؤولة عن تقديم مادة تنويرية، تسهم في معالجة الأدواء الثقافية التي تنهك المجتمع، وتجعله مشغولا بنفسه عن نفسه، وعاجزاً عن مغادرة وضعه الراهن إلى أوضاع أكثر رحابة.
إنّ مسؤولية الجامعة لا تقف عند حدود دعم سوق العمل بالمؤهّلين، وإنما تتجاوزه إلى ما هو أهمّ، إلى دعم الجانبين المعرفي والأخلاقي، الذَين يسهمان في معالجة السياق العامّ؛ ليكون سياقاً صحياً، قادرا على استيعاب الممارسة الفكرية الناضجة، والسلوكية المتسقة – على الأقلّ - مع شروط الزمن (الراهن)، أو مع تطلعات المجتمع إلى مستقبل أجمل وأجلّ.
هذه هي الوظيفة التي يجب أن تنهض بها الجامعات الواعية، وهي ذاتها الوظيفة التي نهضت – وما زالت تنهض بها – الجامعات الكبرى في العالم المتقدّم، وحين تتراخى الجامعة عن تأديتها، فإنها تُعدّ ساقطة بالمعنى؛ لذلك يشهد المتابعون تراجعَ كثير من الجامعات العربية عن دورها القيادي، ويسجّلون عليها انشغالَها – دون إدراكٍ منها - بإعادة إنتاج عيوب المجتمع، ونشر أمراضه...، وليس هذا فحسب، بل سجلوا عليها إسهامها الكبير في شرعنة هذه العيوب، تماماً كما حصل أيام الطفرة الفكرية الأولى، التي شهدتها الأمة العربية.
-3-
لا أظنّ أحداً سيختلف معي في أنّ الظروف التي مرّت بها بلادنا، والوقائع السياسية والاجتماعية التي لم يحسن المثقفون التعاملَ معها، قد صنعت شيئاً من الضدّية بين جامعة (الإمام محمد بن سعود الإسلامية) وجامعة (الملك سعود)، اللتين تأسّستا على منطلقين مختلفين، لتحقيق هدفين مختلفين، يندرجان تحت (التكاملية)، التي تتطلبها النهضة الفكرية، والتنمية الاقتصادية الواعية.
وما أظنّ أحداً سيختلف معي أيضاً في أنّ هناك موقفا حاداً، يحمله عددٌ من أساتذة كلتا الجامعتين تجاه أسا تذة الجامعة الأخرى، أخذ يكبر من الأيام ويتجذّر، حتى أصبح موقفا عاماً ثقيلا، لا يستطيع المثقف التخلّصَ منه، ولا من بعض تبعاته..
هذا الموقف ليس علمياً ولا موضوعياً، بقدر ما هو موقف نفسي، أذكته الوقائع التي مررنا بها، والمعارك التي وقعت بين الرموز، وأثرت فيه النقلة الاقتصادية (الانفجارية)، التي مرت بها دول الخليج دون أن تُواكبَ بوعي ثقافي، يجعل المثقفين أكثر قدرة على التعامل مع الثغرات التي خلّفتها.
أعي أنّ هذه الحالة من التضادّ بين الجامعتين ليست رسمية، وأعي أنّه لم يكن للشخوص الذين تولوا إدارتيها يدٌ في خَلْقِها، ولم تكن لهم مشاركة في أي من فصولها، كما أنني أعي أيضاً أن هناك تواصلا ما بين الجامعتين في سياقات علمية وثقافية...، لكنّ هذا كله لم يقفْ حائلاً دون ولادة موقفٍ عام، خلق الضدية بين الجامعتين، ووسّع الهوّة بين أساتذتها وطلابها، وسعى إلى النزول بهما من مستوى التأثير في السياق الثقافي العام إلى مستوى من التأثر به، وبعلاته، كما سيتضح في الحلقتين القادمتين من هذه المقالة.
@alrafai
الرياض