الدهشة التي تغمرنا بها قصص محمد الراشدي القصيرة، في مجموعته الأولى التي صدرت بعنوان «احتضاري» عن نادي الرياض الأدبي، في سلسلة الكتاب الأول، عام 1433هـ-2012م، هي دهشة من تكشُّف الواقع فيها عن القهر واللاعقلانية. وهي دهشة تستحيل فيها القصة من حكاية الواقع إلى التعبير عنه، وتأويله سردياً، وذلك باتخاذ زاوية للرؤية إليه، ونسج علاقات بين الشخصيات وبينها وبين الوقائع دالة دلالة مخصوصة.
وقد نقول إن شخصياته التائهة والوحيدة والمعزولة، اختيار مألوف في القصة القصيرة، وقد نقول إن القهر والفجيعة والاغتراب الإنساني مضامين مكرورة في الأدب الحديث وخصوصاً القصة القصيرة. ولكن محمد الراشدي في قصصه القصيرة كان يؤدي تلك المضامين ويوظف تلك الشخصيات بطريقة عجائبية تخلق لدى متلقيها -فيما يصف تودوروف الأدب الفانتازي- تردُّداً بين التفسير الطبيعي لها وغير الطبيعي. وقد لا يبتعد هذا التفسير لدى قراء الراشدي عن الطبيعي، ولكنه يبقى فعلاً غير معتاد وصادماً بشكل أو آخر، وهذا مسلك إبداعي يضفي جدَّة وتغريباً ويجعلنا نقف على المعاني ونعاين الوقائع بعيون أخرى!
تتألف المجموعة من اثنتي عشرة قصة قصيرة، وعلى الرغم من تنوع هذه القصص واختلافها فإنها تتشارك في الدلالة على ثيمة القهر المسلَّط على الكائن الإنساني. ونتيجة ذلك هي الفجيعة والإرغام والحيرة والتشتت والخرس والخديعة والنفي والتبلد والسأم والغبن... وما إلى ذلك من عذابات تحيل كونها القصصي إلى سجن وجودي. ولهذا تبدو العبثية والعجائبية في هذا الكون في دلالة التعبير عن هذا الواقع والتأويل له: احتجاجاً عليه، أو يأساً منه، أو تعجيباً به، أو عجزاً عن فهمه، أو رفضاً له، أو تأكيداً وتقريراً لحقيقته وإبلاغاً عنها. وقد يتيح العجائبي بهذا -كما لاحظ بيتر بنزولد- حرية لإنطاق المسكوت عنه، ووَصْف ما لا يمكن تناوله بشكل واقعي، لأن الخارق يسمح بتجاوز الحدود المسيَّجة ثقافياً واجتماعياً وذاتياً. وذلك فضلاً عن الدور الذي يصنعه العجائبي بالخرق للمألوف من تنمية للسرد وتوتير له وإطلاقٍ لعنان الفضول لدى قرائه.
في ثلاث من قصص المجموعة يكون الحدث الموت. والموت حدث وجودي لا يمكن لكائن النجاة منه، إنه الحد الذي تنتهي الحياة عنده، أي ينتهي الحُلم والطموح والاختيار والرغبة واللذة، فما معنى الحرية -إذن- ما دام قد حُكِم علينا بالموت؟! وكيف يمكن الحديث عن الموت في سياق غير جدي؟! هكذا يصبح الموت موضوعاً تراجيدياً بامتياز، وتراجيديته هذه تعني صلابته بوصفه معنى أو حقيقة غير قابلة للتأويل. ولكن حديث الأدب عن الموت حتى في أشد قصائد الرثاء ألماً كان تأويلاً للموت بما يلطف صلابته ويتيح الحوار مع الميت وقد رحل إلى مثواه الأخير. وقد كانت قصص محمد الراشدي الثلاث عن الموت نوافذ مختلفة لتجلية حدثه القهري بما يترامى إلى البحث عن قيمة ذاتية واجتماعية ووجودية.
في القصة الأولى «احتضاري» يدهشنا الراشدي بحديث الميت عن موته، وهو حدث -بالطبع- غير طبيعي، وهنا موضع التعجيب والإغراب*. الراوي هنا، وهو بطل القصة يروي موته، فرعاية المحيطين به: أمه وأبيه ورفيقه سعد وإمام المسجد صالح، وإشفاقهم وجزعهم عليه ومبادلته إياهم الشعور نفسه واحتشاد الرجال في يوم موته، ثم البكاء والصراخ كل ذلك دلالة تشبُّث بحياته، لكنه يموت على الرغم من ذلك! الموت لا يكتسب دلالته إلا بالمعنى المضاد للحياة وجودياً، بلا تشبُّث بالحياة ورغبة فيها لا يغدو للموت معنى. الميِّت هنا غادرهم بمفرده. في خاتمة القصة يحكي الميت عن رفيق حياته ومسراته «سعد»:
«بات يعرف الإجابة!.. بعد اليوم لن نجلس معاً.. لن نحتسي شاي العصر معاً.. لن يجد من يقاسمه الحمام والدجاج وعلب الصفيح والأرغفة.. بعد اليوم سيجلس في المقهى وحيداً.. وسيطرد من المدرسة وحيداً.. وسيذكرني وحيداً.. وحيداً.. وحيداً!!».
هذه النهاية ترينا دلالة الفقدان في الموت، الموت هو فقدان متبادل بين الميت ومن يحبه. الموت هو المعنى القهري الأكبر الذي يخترم الوجود، ويرينا الحياة صغيرة ومحدودة وفقيرة إلى ما يعمِّق الوجود فيها وما يغنيه. وبذلك فإن الحديث عن الموت في هذه القصة هو بحث عن قيمة للعالم وقيمة للذات في وقت معاً.
أما في قصة «تصريح دفن» فيبدو راويها بضمير المتكلم خارج المألوف أمام حدث الموت. إن القصة تبدأ به متسائلاً:
«ما جدوى أن يسكب كل هذا القدر من العطر فوق جسد هامد يوشك أن يكون جيفة بعد قليل. أتراهم يعطرونه لأجل دود المقابر، أم يحسبون أنهم يهيئونه لحفلة ما في دهاليز الأرض. كان يكفي أن يطووا جسده داخل أكفانه لنسرع بدفنه، وننهي طقوس الموت الثقيلة الخانقة التي يتدثر بها المكان مذ تردد صدى حشرجته في أرجاء غرفته قبيل الظهر».
وتزداد دهشتنا حين نكتشف بعد قليل أن الميت هو أبوه. وتمضي القصة إلى خلق تعارضات بين شخصية الراوي وسلوكه وبين حدث الموت بما يخرق المألوف الثقافي والاجتماعي والنفسي. فتخيلات الراوي وسأمُه وانشغاله بأمور تبدو تافهة مثل إشعال سيجارة، أو التنزه قليلاً في الشوارع القريبة حتى يحين موعد الصلاة على أبيه، وولهه بامرأة تمشي على الرصيف، ثم ما يتعرض له من مطاردات تؤخِّر عودته إلى المسجد، واكتشاف مغادرة المشيِّعين بجثة أبيه إلى المقبرة وذهابه إليها مشياً بعد حجز سيارته ورفض أصحاب السيارات التوقف لحمله... الخ كل ذلك خارج ما يستلزمه سياق الموت من جديَّة وحزن ومشاركة في تجهيز الجنازة وتشييعها.
هذا الخرق للمألوف، هنا، يتكشَّف عن شخصية وحيدة تائهة بلا روابط اجتماعية، وبلا عواطف. ومن منظورها يغدو الموت شيئاً آخر، فيتغير معناه، وتتخلخل كثافته وصلابته! الابن الحي -الآن- أكثر استدراراً للحزن والتفجع من أبيه الميت، الابن الحي هنا يعيش حالة عبثية وعدمية ينكسر فيها منطق المعاني وقانون الأشياء. الراوي هنا يبحث عن قيمة ذاتية وقيمة وجودية، وليست الرعاية للميت والحفاوة به إلا الوجه المقابل للتفاهة والتيه الذي يعيشه. وقد كانت خاتمة القصة تأكيداً لدلالة القهر الناجمة عن فقدان تلك القيمة، فلم يصل إلى المقبرة إلا وظلام الليل يغمرها وقد غادرها المشيِّعون منذ زمن، ثم جاءت قفلة الختام هكذا:
«حدَّقتُ في الشارع الطويل المغسول بالأنوار اللامعة.. لفحني برد قارس.. ومضيت أسير.. لا أدري إلى أين!»
ويأخذ البحث عن القيمة وتمثيل القهر في قصة «رائحة القطران» معنى أخلاقياً. فبطل القصة هنا هو صانع القطران الذي يشقى في جمع الأخشاب وحرقها وجمع القطران منها قطرة قطرة، ثم الدوران به في الأسواق وبيعه. أما الحدث فهو موته الذي بدا في القصة لغزاً محيِّراً تتعدد الروايات عنه دون أن تحدِّد سبباً بعينه. لكن المهم هو التقابل الذي صنعته القصة بين حياته وموته، فالأهمية المعقودة عليه في الحياة تبدو في علاقته بالقطران وانتفاع القرويين به في أغراض عديدة، ومن ثم فإن قيمته لديهم تستحيل إلى وسيلة تترتَّب على الحاجة إلى القطران. أما موته فلم يكن موضع اكتراث، فالروايات مختلفة عن سبب موته، والفجيعة تصل ذروتها في خاتمة القصة التي توقفنا على الدرجة القصوى من الإهمال وانعدام القيمة الإنسانية والأخلاقية، وذلك بإهمال القرية لدفنه:
«وحين دنا المساء كانت شمس الأصيل تعكس ظلاً قصيراً لعود نحيل من الخشب يعلو نتوءاً من الرمل يغطِّي حفرة شقها على عجل عابرون مروا هناك، وأسرعوا بدفن جثة توشك أن تتعفن لميت مسجى فوق التراب.. طمروا رفاته بالرمل والرماد دون أن يدروا من هو!».
* تذكرنا هذه القصة لمحمد الراشدي بقصة عبد الله باخشوين الشهيرة «موت أيوب» في مجموعته «الحفلة» (نادي جازان الأدبي، 1985م) وهي قصة يتحدث فيها الراوي عن موته لكن باخشوين لم يبلغ هذه الدرجة من الخرق للطبيعي فالميت في قصته يتحدث عن عذابات مرضه التي لا تطاق وعن موته بوصف آثاره على أسرته وقراءة أخيه للقرآن واختلاف أبيه وأمه على مَنْ يغسله وإصرار أمه على أن تغسله... إلخ لكنه يدلل لنا أنه حي أثناء تغسيل أمه له يستمع ويحاول الكلام دون أن يقدر وقد انتشرت رائحة العفونة في المكان وتنتهي القصة بنداء أمه للمرأة التي تعاونها في تغسيله أن تعاونها على كتم أنفاسه، بتواطؤ معه على ذلك! في مغزى يبدو وكأنه لإراحته من آلامه وعذاباته التي أمعنت القصة في الحديث عنها وتصويرها.
جدة