يتحول النص الرئيس الغائب إلى نص هامشي رغم كونه إطاراً للنص الحاضر الذي يتوازى معه بشكل تعاقبي وتقاطعي. القصة التي خرج منها البطل تؤطر قصته التي دخل فيها هارباً ومقاوماً، لكنه يظل، رغم سلطة المؤلف الكاسحة، مهيمناً على القصتين، فهو المصدر الوحيد لمصداقية القصة الأساس التي يرويها لنا والتي لم نر سوى «عدد» صفحتين منها (127 - 128).
وتظل أحداث صفحة الغياب وما سبقها وما تلاها مجهولة لدى المتلقي الذي لا يعرف حقاً إن كانت هناك قصة سيموت فيها البطل أم لا إلا من خلال السارد الهارب ، كما أنه لا يعرف إن كان البطل مستحقاً لذلك الموت أم أن المؤلف المفترض يجني عليه بما لا يستحقه. لكن الحكم على استحقاق البطل لمصيره الذي قرره له المؤلف الأول قد يحدده موقف ذلك المؤلف داخل القصة الثانية، فالبطل يدخل معه في مداولات سرية ويعقدا على إثرها هدنة مشروطة بتعهدات مفصلة: «وأضاف بخضوع: سنجد مخرجاً لنجاتك من الموت.
قلت له: إذاً نتفق على بعض التفاصيل..
قال دون تفكير: موافق».
كانت تلك موافقة قائمة على الخداع، وموقف المؤلف سيظل ثابتاً كما توضح لنا الصفحة 128 من القصة الأولى لتسيير خطة السرد نحو نهايتها المقررة سابقاً.
هذا المؤلف المخادع قادر إذاً على أن يكون جانياً متعسفاً وطاغية، مما يعزز حق البطل في الانتفاض والرفض والهروب.
عدا أن البطل حين تنازل عن بعض حقه الوجودي المكتسب في نصه المنشق لصالح النص المؤطر له فقد أظهر أن قناعاته عن جدوى الهروب كانت قد تغيرت بعض الشيء، فالمؤلف لم يكن بوسعه أن يجبره على العودة، ولا كانت الثقة المفرطة في وعوده هي المحفزة لعودة بطل يعرف جنون مؤلفه جيداً، لكن جلسة المفاوضات أسفرت عن أمر مهم جداً، ألا وهو الإغراء الذي لا يقاوم، (الخلود): « وأقنعني: أنني حتى لو مت داخل «النص»..
فإنني لا أموت!» صحيح أن تفادي الموت كان هو الباعث على الخروج، لكن العمل الفني يهب الشخصية عمراً لا يفنى، لذلك فإن وعد المؤلف بتخليد البطل خارج النص ألغى الهدف الجوهري للهروب، حتى لو أنه أماته داخله عكس ما وعد.
لذلك فإن المؤلف قد أتم وعده وإن أخلفه.
هذه السلسلة من المفارقات تزيد من غموض النص وتداخل معانيه، لكن المعضلة الأهم هي تلك التي تناقض بعضها فتظهر وكأنها تجترح المنطقي والمعقول، والتي تتمثل في ولوج النص داخل نوع من النفق الزمني.
حين خرج البطل من النص القاتل إلى نص الهروب كان محكوماً بوحدة التتابع المنطقي، فهو في مرحلة زمنية متوسطة بين أحداث يعيشها، وأخرى مستقبلية قادمة:» كنت أرى أن الأحداث تتجه لنهايتي، وأن الحبكة تستدعي موتي..».
منطقياً، لحظة هروب البطل كانت سابقة لمقتله، لذلك لا يستغرب القارئ أن يسرد البطل قصة الهروب ولحاق المؤلف به وعقد التحالف بينهما، بل حتى عودته الضمنية للنص حيث لاقى حتفه، فكل تلك الأحداث يرويها وهو ما زال حياً. لكن البطل يعود بشكل غير متوقع إلى نصه المنشق ليدمر وحدة ذلك التتابع المنطقي ويقوم بمهمة التبليغ عن مقتله.
وهنا تبدأ دائرة المتاهة الزمنية في تحرك لانهائي يأخذنا إلى داخل النص ثم إلى خارجه بنفس الاندفاع: إن كان البطل قد مات على الورق الرئيس، فالسؤال هو كيف هرب مرة أخرى بعد موته ليسرب لقارئ نصه بلاغ مقتله؟ وعلى مستوى آخر، إن كان البطل قد مات داخل النص المولد له، فسواء هرب مرة أو مرتين، فمن الواضح أن نص الانشقاق كُتب وتم تسريبه دون علم المؤلف، فهو بذلك نص سري يتم تداوله في الخفاء بقصد توريط المؤلف في جريمة قتل لا شهود عليها.
هذه المعضلة تشكل قضية تستلزم التحري، فبلاغ القتل يتسبب في خلق فجوة زمنية لا يفسرها سوى أن يد البطل قد امتدت من قبره الورقي لتسجل على النص المنشق والمتسرب كلماته الأخيرة التي تثبت الجناية: « عند الصفحة «128».. قتلني! ها هو إصبع الاتهام يتجه صوب المؤلف القاتل الذي يجهل أصلاً أن هناك قضية تحاك ضده ! حينما اقتحم المؤلف النص الذي هرب إليه البطل لم يكن يعلم أن تحركاته كانت مرصودة، لم يكن يعلم أن متلقي نص الهروب كان شاهداً على دخوله وتجواله، وعلى ارتباكاته وعهوده.
بعيداً عن أعين متلقي النص الرئيس يلاحق المؤلف بطله ويتفاوض معه ويعيده للنص قبل أن يفتقده ذلك المتلقي الأول أو يشعر بتأثير غيابه على بنية النص الذي يتلقاه.
كان متلقي نص الهروب شاهداً على مؤلف منظور وهو البطل، كما كان شاهداً على لحظة تحول المؤلف الضمني إلى مؤلف ثاني منظور في ذلك الاجتماع السري الذي عقد بعيداً عن متلقي النص الرئيس.
كأننا إذاً أمام مرآة لا تعكس فقط نصيْن، وإنما مؤلفيْن وقارئيْن في نفس الوقت، عالمين لا يفصل بينهما سوى حاجز شفاف يتوهم القارئ أنه موجود كجدار رابع، فتهدمه فجأة جملة إثبات الجناية، ليجد القارئ نفسه أمام وهم كبير، فالقصة واحدة والمؤلف واحد، وهو المتلقي الوحيد لنص واحد.
تستدعي مهمة توصيل بلاغ القتل إلى القارئ نوعاً من التواطؤ، وهو ما تستدعيه أيضاً مهمة توصيل نص كامل القضية.
في الحالتين نستطيع القول بأن المؤلف الأصلي والوحيد هو المتواطئ، وأن النص في مجمله لم يخرج عن القصدية التي فرضها هو من البداية، وما تلك القفزة الزمنية إلا مؤشراً على تحكمه المطرد حتى في مجريات القصة المنسوبة إلى البطل.
تفعّل تقنية المرآة أقوى تأثير لها في لحظة المواجهة بين البطل والمؤلف: « في الصباح صحوت على صوت قرع باب الغرفة.. فتحت الباب.. كان «الروائي» يقف أمامي..».
في هذه اللحظة يجد المؤلف نفسه وجهاً لوجه مع ذاته المنشقة، شِقّه المسكون بهاجس التحرر، أناه الصارخة بالرغبة المكبوتة في تحقيق معنى البطولة الحقيقي بالثورة على كل أشكال الخنوع والاستسلام. في المقابل، فإن قتل المؤلف لبطله هو قتل البديل مجازاً، وكما يرى فرويد فإن للقصة دائماً بطل واحد هو المركز والمدار، وكل الشخوص المجاورة له ما هي إلا تشظيات لذاته.
صراع البقاء إذاً هو صراع داخلي، حرب بين مستويات الوعي ينهزم فيها المتهور ومحارب الطواحين.
يلعب المؤلف دور الأنا العليا المسيطرة على الأوضاع والقامعة لأي تهديد يعرض الكيان الأشمل للهدم، فيقمع النزوات وشهوات التمرد ويلتزم بقوانين خطة إنقاذ المعمار السردي.
يعكس التضمين التقاطعي بين القصتين تقاطعاً من نوع أعلى، وذلك هو التقاطع بين الحقيقة والخيال. هذا النص أعلن عن تقاطع الحقيقي والخيالي حين حدد البطل وجهة هروبه: « أنني قرّرت الهروب من صفحات الكتاب.. إلى شوارع الحياة. « لا يكتفي النص بإخراج بطله إلى حيز الوجود الواقعي، بل يحاول أن يغير كثير من القناعات الراسخة، فيصدم القارئ بنظرة مخالفة للمعتاد والسائد ينفي بها واقعية الواقع وخيالية الخيال: « وقال: إن الحياة كذبة.. و»النص» حقيقة.
« ينتقل معنى الوهم من نصوص المتخيل البشري ليصبح صفة لازمة للعالم الخارجي، وتصبح الحقيقة فقط ما نصنعه فعلياً، لا ما نستوعبه سلبياً. الحياة من حولنا مجموعة من تصوراتنا وتهيؤاتنا، وحقيقتها التي اختلقناها حقيقة لا تعدو كونها مؤسطرة.
هروب البطل إذاً هو خروج من فضاء خيالي إلى فضاء يفترض أنه حياتي واقعي، وهذا الخلط بين شخصية كتابية وبين تجولها في شوارع حقيقية يزيح الحد الفاصل بين عالم السرد وعالم الحقيقة، كما يشير إلى السطوح المتعددة التي يشتغل عليها النص. تنفتح هنا فكرة التحكم الروائى على فكرة التحكم القدري، وتتعالق كلمة الكتاب مع فكرة المكتوب، ويطفو مفهوم القدرية والحتمية على سطح النص كخلاصة لطبيعة المواقف الوجودية للإنسان داخل هذا الكون.
ما الناس إلا كلمات مكتوبة في الكتاب الأصلي الذي حوى كل شيء، كتاب متحكم بالمصائر لا يترك أي هوامش للتمرد: « قال لي كلاما كثيرا عن: قيمة أن أعيش داخل «النص».. لا خارجه».
كل خروج من نص، إذاً هو بالضرورة ولوج إلى نص آخر، فالنصوص كلها متاحة والأبواب بينها مواربة، لكن، وكما يقول سارتر، لا مخرج «Huis Clos». ويبدو أن قيمة العيش داخل النص تتمثل في عدم الانخداع بزيف الادعاء المروَج لامكانية الخروج أصلاً، فكل محاولات للهروب هي جهد ضائع.
يأخذ «داخل النص» هنا معنى قوانين الحياة والوجود التي لا مفر منها، فهي تحيط بالإنسان وتخضعه وتمنع خروجه إلا بالشكل الذي يتماشى مع مخططها الأشمل ومن المخرج الوحيد المتوفر: الموت! لذلك يعود البطل صاغراً إلى النص الأول في تكريس واضح لفكرة العجز والاستسلام، وتعضيد لمعضلة القدر المحتوم الذي لا فكاك من تحقيقه.
ويدفعنا قتل المؤلف لبطله في النهاية إلى التفكير في أن المؤلف نفسه رازح تحت سطوة الواقع ومستسلم لاستحالة الانفلات من قبضة القدر.
تحقق هذه القصة التجريبية خروجاً موفقاً عن هيمنة الأنماط السردية المألوفة وانفلاتاً من أعراف التجنيس النوعي، وذاك هو الانعتاق الممكن الذي يسعى إليه الفكر النقدي المحرك لتقنية ما وراء القص. يستجوب هذا الشكل المابعد حداثي كل الفرضيات السردية التقليدية ويحاول تعطيل وثوقيتها، كما يقوم بالتشكيك بمدى واقعية الواقع ومدى لا معقولية الخيالي حتى تتحول الحقيقة إلى مفهوم يشوبه الكثير من الاشتباه.
في النهاية يبقى النص الجديد عملاً مفتوحاً يمتلك سلطته الذاتية التي يسخرها طوعاً لجماليات التلقي والاستجابة مع تعدد القراءات.
lamiabaeshen@gmial.com
جدة