في كتابهما الأخير (لماذا تفشل الدول.. أصول السلطة والازدهار والفقر) تعرض المؤلفان دارون أسيمولجو وجيمس روبنسون إلى أسباب الفشل المحتمل للدول، بدءاً من الثقافة والمناخ والجغرافيا إلى عوامل السياسة الفاعلة، وانتهاء بدراسة العوامل المركبة: تداخل نمو المؤسسات الاجتماعية والسياسية مع تحقيق الازدهار الاقتصادي ومواصلة العوامل المؤدية إلى التنمية المستدامة.
وقد قارن المؤلفان بين تجربتي كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية؛ حيث يتساويان تقريباً في العوامل الأولية: الثقافة والمناخ والجغرافيا، مع اختلاف في السياسات المطبَّقة، وما نتج من ذلك من العوامل المركبة المؤدية إلى نتائج مختلفة في كل من البلدين، أدت في كوريا الجنوبية إلى ازدهار اقتصادي وتنافس مع أقوى الاقتصادات العالمية، بل حتى في مجال الرياضة العالمية، كما هو معلوم في أولمبياد لندن الأخيرة حلت كوريا الجنوبية في الترتيب الرابع عالمياً من حيث عدد الميداليات الذهبية التي حصلت عليها. وفي المقابل كانت العوامل المركبة في كوريا الشمالية سلبية، وأدت إلى تدهور اقتصادي مستمر، وفقر مدقع، بل وجوع لأغلب فئات الشعب غير المتمكنة من مصادر الرزق القليلة، وضعف في التنمية صاحب زوال النموذج الشيوعي القادر على العيش بنمط من أنماط الحياة في الساحة العالمية.
فما الذي أدى في شطر من شبه الجزيرة الكورية إلى ازدهار وتحول إلى دولة من أغنى دول العالم، وفي شطر آخر منها إلى واقع مزرٍ لا يماثله إلا حالات قليلة جداً من البؤس والحرمان في مجتمعات لم تتكون فيها دولة على الإطلاق؟
الأسباب التي ذكرها المؤلفان هي كون الشطر الجنوبي أسس لمجتمع وفر بيئة حاضنة للعوامل المركبة الإيجابية من خلق الحوافز الفردية، وإيجاد الدافع لدى مختلف فئات الإنتاج، ومكافأة أصحاب الابتكارات، والسماح للجميع ممن يملكون الأفكار البناءة للإسهام في تطوير الأعمال بشكل مستمر والتفوق على النفس وعلى الآخرين. فكانت الفرص دائماً متاحة لأصحاب الكفاءة دون غيرها من الأسباب. فهذه العوامل مجتمعة حققت القفزة الكبيرة لكوريا الجنوبية، من كونها في أواخر العالم الثالث في ستينيات القرن الماضي إلى أن أصبحت في أوائل العالم الثاني في العقد الأول من هذا القرن (أي في أقل من خمسين سنة). وخلال تلك القفزات ساير ذلك النجاح الاقتصادي أيضاً تطور في أنظمتها السياسية؛ حيث كانت الحكومة مسؤولة مسؤولية كاملة عن مواطنيها، وتقبل، بل تخضع للمساءلة عند أي تقصير، ويبادر مسؤولوها بمحاسبة أنفسهم عما يحصل في مجال مسؤوليتهم قبل أن يحاسبهم المواطنون. وخلافاً لذلك كان الاستبداد مهيمناً على كوريا الشمالية، وبقي المهيمنون فيها يتحكمون بموارد البلاد القليلة، بينما تعيش البلاد في مجاعات مستمرة، وعزلة عن العالم، مقابل تمسكها بأسلحة الدمار الشامل، التي لا تفيد الناس التي تموت وتقهر وتعيش في بؤس مستمر؛ إذ بقي القمع السياسي والابتزاز الاقتصادي لدى النخب هو عنوان ذلك النموذج.
فهل المجتمعات الأخرى التي يوجد فيها بعض النمو الاقتصادي مثل مجتمعات مجلس التعاون الخليجي بمنأى عن حدوث ذلك الفشل؟ المعطيات العملية تقول إنها ليست بمنأى عن حدوثه، وإن كان بدرجات مختلفة. فالحوافز ليست موجودة بدرجة مقبولة، والفرص ليست متاحة لأصحاب الكفاءة، والغلبة لأصحاب الأصوات العالية والشعارات الفارغة.
بقي لهذه الدول تدفق أموال النفط، وهي التي تغطي على معايب تلك العوامل المركبة، وعلى رأي الأغنية الذائعة الصيت: «الليل بيستر العيوب». لكن التغطية لا تعني سلامة البنية؛ فالسوسة غير المرئية تنخر أحياناً في أخشاب قوية وسامقة، فتتهاوى بعد حين. فما كان ظاهراً ليس بالضرورة أن يكون عنواناً لما هو كامن.. قراءة وتروٍ!
الرياض