وآخر مطالب هذا الكتاب تعقيب على بحث للدكتور محمد بن حسين الحبوبي الذي دعا فيه إلى استعمال الحروف الأعجمية للوحات السيارات لصعوبة الحروف العربية لتشابه أشكالها، ولما يثيره تواليها في اللوحة من معانٍ قد تستهجن، ولأن من يسافر بسيارته للبلاد الأجنبية يجد مشكلة، ولوجود جالية كبيرة في بلادنا لا تعرف العربية، ولاحظ أستاذنا أن الباحث جاء بحل نفعي لم يراع الملابسات الاجتماعية والنفسية والثقافية ذات الأثر البالغ العميق، فهو هدم لأسس المحافظة على اللغة القومية الممثلة لهويتها، وهذا المنطق الذي تحدث به الباحث هو منطق أعداء العربية المشككين بقدرتها ولكن الأمة ثبتت على استعمال لغتها، وليست القضية استفادة أو سهولة وصعوبة بل القضية قضية هوية، والحجج المذكورة غير مقنعة فتشابه الحروف واقع في كل لغة والتآكل ينالها جميعًا، وأما المعاني التي تنتج فيمكن التغلب عليها، وأما السفر بالسيارة للخارج فهو قليل وليس بمشكلة. وأما وجود الجالية الأجنبية أو الحجاج والعمار فليس بحجة فما من دولة تغير من لغتها رعاية للسياح أو الزوار، ومن مصلحة الأقليّة الأجنبية أن تتعلم العربية، والحجاج والعمار مسلمون يقرأون القرآن ويعرفون الأرقام العربية، ويشيد الأستاذ بما قامت به وزارة الداخلية من تغيير لوحات السيارات لتكون عربية خالصة، ولكن الكتاب صدر ثم عادت الوزارة إلى لوحات ثنائية اللغة وأنتجت في اجتماع الأحرف الإنجليزية من المضحكات أضعاف ما تنتجه العربية. هذا من أستاذنا بيان وتسجيل موقف.
وكنت تمنيت لو أن أستاذنا وقد جمع هذه الأمور المتفرقات في إطار واحد أن يختم بخاتمة عامة تنطلق من جملة ما أثارته هذه البحوث المتوالية لبيان موجز ينتهي به القارئ إلى ما يمكن أن ينجز في سبيل درء مخاطر العولمة والتمكين من أمر العربية في أنفس أبنائها وأوطانها العربية والإسلامية، ومثل هذا مبثوث في ثنايا الكتاب بما لعله جعل أستاذنا يكتفي به، ولكني سأذكر بعض التوصيات التي ذكرتها في مشاركات تدور حول هموم العربية ومشكلاتها وأراها نافعة. وهذا جزء من مشاركتي في (لقاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية): «إننا الآن أحوج ما نكون إلى استعادة هويتنا وإثبات وجودنا ولن يكون ذلك إلا بعمل داخلي يعيد لعصب تلك الهوية حياته وهو اللغة العربية فيعيد التعليم إلى حضيرتها ويلقي زمام العمل في يدها.
وإني أدرك كل الإدراك أهمية القرارات السياسية في ذلك؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ ولكني مؤمن كل الإيمان بأن المجتمع بأفراده عليهم إن هم أرادوا استعادة هويتهم أن يعملوا على ذلك.
إنّ الطموح المشروع إلى استعادة الهوية سبيله أن تعود العربية لغة مسموعة مقروءة مُتحدَّث بها في جميع أرجاء العالم العربي، وإن ذلك ليس بعزيز؛ ولكنه ليس بالسهل، بل هو تحد يواجه الأمة كلها؛ إذ لا بد ليتحقق شيء من ذلك من خطوات جادّة في سبيل الإصلاح، ومن ذلك:
أولا:إصلاح التعليم
علينا أن نصحح مسارات التعليم فلا نسوق أبناءنا في مسارات لا تلائم قدراتهم بل علينا أن نوجههم توجيهًا مبكرًا إلى ما يناسب قدراتهم التي تكشفها الاختبارات الدقيقة الصادقة والقياس الصحيح الذي لا تعيث به نزعات الأنانية واختيان النفس والغفلة عن المصلحة العامة.
علينا أن نربي أبناءنا على شرف الأعمال الحرفية الصغيرة وبيان أهميتها في سيرورة حياة المجتمع وعلينا التحسين من بيئات العمل بما يكون جاذبًا لطاقات شبابنا، وعلينا أن نتعلم أن كل إنسان مؤهل لما خلق له، وأنه ليس من الواجب أن يكون كل الشباب جامعيًا أو فوق الجامعي.
وعلينا في سبيل إصلاح التعليم أن نهتم بما يأتي:
1- الاهتمام الجاد بأخذ اللغة مشافهة وإدراج ساعات للتلاوة والحوار والإنشاد في المراجل المبكرة ولنا في تاريخ الكتاتيب تجارب أثمرت في الأجيال السابقة.
2- تأليف الكتب على أسس جديدة تراعي ربط اللغة بالعصر الحاضر والحياة اليومية ومتطلباتها المختلفة.
3- التركيز على التدريب العملي المتنوع المتواصل.
4- تدريب المعلمين تدريبًا متواصلا ومساعدتهم على ما يجوّد عملهم.
5- مراعاة مقتضيات الجودة من حيثُ عددُ طلاب الفصل وساعات عمل المعلم.
ثانيًا: العمل الاجتماعي
1-بعث روح الغيرة على اللغة العربية.
2-تنشئة الطفل على معرفة العربية وحبها وتوفير وسائل الترفيه المعتمدة على العربية وتحويل كل ما يقدم إليه من أعمال تلفازية بلغة عربية.
3- التخلي عن السلبية في التعامل مع لغات العمالة المنزلية والتصدي لها والإفادة من نتائج الدراسات البحثية التي تقاطرت في المؤتمرات ولم تخرج لحيز التنفيذ العملي.
ثالثًا: العمل السياسي
لابد من قرار سياسيّ مشمول بالنفاذ متصف بالمتابعة المستمرة يؤدي إلى:
1- تمكين العربية بجعلها لغة العمل والإدارة في البلاد العربية.
2- جعلها لغة التعليم العلمي والتقني في جميع المراحل التعليمية.
3- أن يلتزم باستعمال العربية القطاع الخاص من شركات ومحلات تجارية ومطاعم وفنادق ومستشفيات وما في حكمها ووسائل النقل المختلفة.
4- تشجيع وسائل الإعلام على اعتماد العربية الفصيحة في بثها المسموع والمرئي.
5- تشجيع الأعمال التمثيلية باللغة الفصيحة وتقديمها على غيرها.
6- جعل العربية شرطًا أساسيًّا في التوظيف.
7- أن يتعاون العرب جميعًا كلٌ حسب مجاله وما يُسر له، فصاحب الأموال بماله وصاحب السلطان بجاهه وسلطانه، والعالم التقني بمعرفته الحاسوبية والعنكبية، واللغويّ بمعرفته اللغوية، والإعلامي بقوة تأثيره.
8- المبادرة بإنشاء جهاز عربي ضخم لترجمة المصادر العلمية وموالاة ترجمة كل جديد.
رابعًا: العمل التقني اللغوي:
1- تقريب المسافة بين الفصيحة وعامياتها باستغلال المفردات المتداولة في العاميات بعد تفصيحها.
2- التعجيل بإنشاء معجم عربي شامل لكل الألفاظ والمصطلحات وأن يكون مبثوثًا على الشبكة العنكبية، وأن يحتذى فيه آخر ما توصلت إليه الأمم المتقدمة من تقنيات وإمكانات كما هو الحال في المعجم الفرنسي.
3- تزويد الحواسيب بأكثر التعبيرات الفصيحة استعمالا.
4- تزويد الحواسيب بنماذج من المخاطبات الرسمية المصوغة بلغة وظيفية سليمة من الغموض والفصيحة لغويًّا.
5- استغلال منافع الحوسبة والعنكبية في الترجمة والنشر والتعليم.
خاتمة
لن نستعيد هويتنا إلا إن تولينا شؤوننا بأنفسنا وتحولنا من الاستهلاك إلى الإنتاج ولن يكون ذلك إلا بتعلمنا بلغتنا وباحترامنا لأنفسنا وتقديسنا للعمل ما صغر منه وما كبر، وهذه مسؤولية قومية ليست على فرد دون فرد وليست على حاكم من دون محكوم، وكما تكونون يولى عليكم، وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ» (1).
* * *
(1) جزء من مشاركتي في (ندوة: اللغة والهوية) افتتاح الحلقة النقاشية (آفاق الريادة والتميز) مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي لخدمة اللغة العربية،الرياض،10-12-جمادى الآخرة-1433ه، الموافق 1-3-مايو-2012م.
الرياض