ستقابل بضحكة ساخرة إن قلت لأحدهم أعطِ فقيراً كاميرا أو خصص له وقتاً للرسم أوالموسيقى أو حتى تبرع له برواية مجنونة تنتشله من جنون لياليه القاسية أو تنسيه لهيب لحظة حارقة. وغالباً سيتبع تلك الضحكة محاضرة طويلة عريضة منمقة ومزركشة أيضاً عن معرفته العظيمة بأولويات الفقير واحتياجاته وعن عالم يتهمك ببساطة أنك لا تعلم عنه شيئاً ولا تفقه رسم نقطة على حرف في أبجدياته!
من نحن لنقرر أن الحياة لديهم اقتصرت على ماء وخبز، من نحن لنتهم الفقير المتكئ على جدار بؤس في ركن قصي أنه لا يركض وراء قوته ويعبث بصفحات كتاب.
وأؤكد أني لست أكتب بهذه اللحظة وأنا أشرب قهوتي الساخنة مع قطعة حلوى شهية وأنظّر على من أعياه البرد والجوع والعطش، ولكني أشاهد وأشهد على الكثير من المؤسسات والمراكز لدينا التي تقوم بنفس المهمة وتركز على نفس الأدوات وتكرر نفس الإنجازات وحتى نفس الأخطاء.
لماذا العمل الخيري لدينا مرتبط ارتباطا شديدا بحفر بئر وكسوة وإطعام وكفى. عدد مهول جداً من الجهات الخيرية يعمل على نفس المشاريع وإن فتح الله عليهم أقاموا مسابقة ثقافية كل حين. لست أقلل من كل هذا بل أكبِر وأشكر ولكني أتساءل أين البقية من الخير. لماذا تتراجع أهمية غذاء الروح مقابل فوز ساحق لأهمية غذاء الجسد.
أتذكر جيداً عندما طرقت باب مركز (بير) لإرشاد الشباب بلا مأوى في مدينة بورتلاند الأمريكية http://pearmentor.org، لتسقط عيني فوراً على معرض تصوير فوتوغرافي يستضيفه المركز في آخر الرواق، بينما على يميني شباب مغرقين في عملهم بمراسم وورش فنية وصوت التدريب على أوتار آلة موسيقية ما يجذبني من ركن لم أتبينه، كان قلبي يخفق بشدة و الأفكار تتدافع برأسي بينما ذاكرتي في حالة هيجان غريبة، استعرضت الكثير من المشاهد واللقطات لمن يستلقي على جانب الطريق متدثراً بلحاف بالي وعينيه تتابع السطور التي يقرأها في كتاب بين يديه بشغف وكيف هي ملفتة طرق طلبهم للمال تهمس بسر خلفية ثقافية ما، بغض النظر عن اختلافنا مع فكرة التسول أو عدمها وبغض النظر عن حكاية العطالة ومايتبعها من تفاصيل كثيرة إلا أن الفقر قاسم مشترك أياً كانت أسبابه بينهم وبيننا.
وحالة الهيجان التي أصابت ذاكرتي حينها ركضَت صوب فيلم وثائقي شاهدته منذ زمن بعنوان (Born into Brothels) يروي مشاهد من قلب كلكتا الهندية في أحد الأحياء المنهكة على جميع الأصعدة لمجموعة من الأطفال لم يتصالحوا مع الحياة بعد ولدوا في بيئة مؤذية جداً تجتمع بهم الفوتوغرافية Zana Briski وتمنحهم كاميرات لتصوير تفاصيل يومهم بجنون رؤيتهم للأفكار والزوايا وبنظرتهم للحياة للجمال للفقر وللطفولة ولأنفاس الهند ،،، جمع الوثائقي المميز الفكرة بالصورة ما يجعلك لا تحتمل إيقافه ولو للحظات بل تتابع الأحداث وتستمتع بتفاصيل دافئة حيناً ومؤلمة جداً حيناً آخر، تبتسم وتندهش وتقع تحت تأثيره لا محالة. وبعيداً جداً عن متعة المشاهد أو عن نجاح الفوتوغرافية والمخرجة بصناعة فيلم مختلف حصل على الأوسكار 2004 إلا أنها عرضت صور الأطفال بمعارض خارجية جلبت لها تمويل لدراسة الأطفال أبطال الفيلم. وتستمر باهتمامها هذا عبر Kids with Cameras وهي منظمة غير ربحية حكايتها بتفاصيلها هنا www.kids-with-cameras.org
وسؤالي يلح علي من جديد، من نحن لنقرر احتياجاتهم؟ إن كان حقاً العمل الخيري يؤدى من باب الإحسان فيه فعلينا أن نطرق كل أبوابه ونوافذه وشرفاته أيضاً.
تلميح:
«حتى يحب لأخيه …»
kimmortality@gmail.com