الدار البيضاء - كتب حمد العيسى
وصل قبل أيام إلى باب بيتي في كازابلانكا ظرف كبير فتحته بسعادة لكوني مغرم منذ المرحلة الإعدادية بالمراسلة عبر البريد وما يحمله البريد من رسائل ومفاجآت.. وكانت هذه المرة (أم المفاجآت) الجميلة ولكن غير المستغربة حيث وجدت نسخة من (الطبعة الخاصة) لملحمة جلجامش: قصيدة من الأدب السومري، قراءة خاصة لعبد الله صالح جمعة، وهو الرئيس السابق لأرامكو السعودية.. وكتاب جلجامش هذا يقع في 131 صفحة، من الحجم الكبير ومستطيل وبورق ذهبي جميل وفاخر Fedrigoni, Materica Kraft، وتحتوي بعض الصفحات على رسومات معبرة مستوحاة من موضوع الملحمة. ويتميز الكتاب بحروفه الخاصة الفاخرة، وغلاف الكتاب من النوع الصلب (هارد كوفر).
ويشرح جمعة في المقدمة أنه قرأ بل درس جلجامش بالإنكليزية كمادة مقررة في العلوم الإنسانية في الجامعة الأميركية في بيروت، أثناء دراسته العلوم السياسية.. ومن ثم قرر ترجمة الملحمة وبدأ ذلك بالفعل عام 1970، عندما كان يعمل في بُقيق معتمداً على الترجمة الإنكليزية للمترجمة نانسي. ك. ساندرز، الصادرة عن دار بنغوين الإنكليزية، ولكنه توقف عن الترجمة في منتصف النص وعاد ليكملها بعد تقاعده عن العمل لتصدر عام 2012، في طبعة خاصة جميلة وأكثر من فاخرة من إنتاج (المحترف السعودي).
الوفاء
ويختم جمعة مقدمته بفقرة جميلة ومؤثرة كتعبير عن وفائه لأخيه المرحوم الأستاذ المثقف المعروف والفلكي الشهير جبر جمعة: (وأخيراً، لا يمكن أن أختم هذه المقدمة من دون كلمة وفاء لأخي الأكبر جبر بن صالح بن جمعة الدوسري، - رحمه الله - وأدخله فسيح جناته، الذي أدين له بما لا أستطيع أن أحصي من أشياء جميلة في حياتي، والذي ما فتئت، منذ رحيله عن دنيانا أذرف عليه دموعاً تحاكي دموع جلجامش على إنكيدو).. ومن المعروف أن إنكيدو هو صديق جلجامش بطل الملحمة.
ملحمة جلجامش:
الحياة والحب والموت
وملحمة جلجامش هي ملحمة سومرية، وجدت مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحاً طينياً وتتصدى لثلاث قضايا هي: الحياة والحب والموت. اكتشفت لأول مرة عام 1853، في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف في ما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشور بانيبال في محافظة نينوى في العراق، ويُحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل آخرها في نهايته توقيعاً لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني، الذي يرى بعض العلماء أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان. واعتبر جلجامش لفترة من الزمن شخصية أسطورية خيالية، ولكن الاعتقاد السائد الآن أنه كان بالفعل موجوداً وذلك بعد اكتشاف نقوش أثرية تؤكد حقيقته التاريخية.
ويعتقد أن النسخة الأكادية من الملحمة التي تم العثور عليها مستندة على نسخة سومرية يرجع تاريخها إلى 2100 سنة قبل الميلاد.. وبعد سنوات من اكتشاف الألوح الـ 11، تم العثور على لوحة أخرى يعتبرها البعض تكملة للملحمة والبعض الآخر يعتبرها عملاً مستقلاً وقصة أخرى لأنها كتبت بأسلوب آخر وفيها لا يزال أنكيدو على قيد الحياة. تم ترجمة الملحمة لأول مرة إلى الإنكليزية في سنوات تلت عام 1870 من قبل جورج سميث وهو عالم آثار متخصص في المرحلة الأشورية في التاريخ القديم والذي توفي عام 1876.
والكتاب بصراحة تحفة فنية - أدبية شكلاً وموضوعاً ويُشكر عليه معاليه، ولعلّي هنا أطالبه بعرض الكتاب للتداول العام بدل الخاص وبالمزيد من الجهد لإنتاج كتب نوعية تثري الثقافة السعودية خاصة والعربية عامة خصوصاً سيرته الذاتية والمهنية الثرية بالكفاح المهني كما يفعل كبار القياديين في الغرب. نعم، أطالبه بهذا على الرغم من مشاغله، حيث إنه - كما هو معلوم - يسافر كثيراً ليلقي محاضرات في أهم الجامعات والمراكز البحثية عن خبراته وتجاربه الإدارية الهائلة التي اكتسبها عندما قاد بنجاح أكبر شركة نفط في العالم (من حيث طاقة الإنتاج وحجم الاحتياطي) لمدة 14 عاماً، امتدت من عام 1995 حتى عام 2009، بالإضافة إلى كونه عضو مجلس إدارة للعديد من الشركات العالمية لعل أهمها هاليبرتون Halliburton.
ونختم هذا الخبر السعيد بمقولة عظيمة لتشرشل قالها بعدما خسر الانتخابات وخرج من رئاسة الوزراء رغم كونه قاد الحلفاء للنصر، وتفرغ بعد خروجه للكتابة ليفوز بجائزة نوبل للأدب، وهي مقولة أراها مناسبة لوصف معالي الأستاذ جمعة: (النجاح ليس نهائياً، والفشل ليس قاتلاً. ولكن، في النهاية، ما يهم حقاً هو الشجاعة لكي تواصل العمل والكفاح).. وها هو معالي الأستاذ جمعة بالفعل يواصل العمل النوعي في الثقافة بعدما أبدع في الإدارة.
لقد كان بإمكان جمعة أن يستسلم لكسل التقاعد اللذيذ أو ينشغل في البورصة والعقارات أو يعمل مستشاراً ًكما فعل ويفعل الكثير من أقرانه ولكنه اختار درب الثقافة.. وكان هذا نعم الاختيار لأنه يقود صاحبه إلى الخلود في ذاكرة الوطن والتاريخ والثقافة بل والإنسانية، وكانت البداية بهذا الإنجاز النخبوي والنوعي الذي نغبطه عليه.. وسوف ننتظر كتاب جمعة التالي بفارغ الصبر.