محمد رضي الشماسي
373 صفحة من القطع المتوسطة
لا عنوان الحب إلا الحب.. والحب إيثار وتضحية.. وتفانٍ..
وتفاهم مشترك.. وبناء أسرة يسودها السلام والوئام.. هذا عن الحب في مفهومه الخاص.., عن الحب في مفهومه العام رفض للحرب.. والكراهية.. والاستغلال، واحترام حرية الإنسان وحقوقه..
ولأن الشعر مشاعر تصب في خانة الحب أعطى له شيئاً من خواطره:
أي جدوى في الشعر حين عناده
والقوافي أزمة في طراءه
أي جدوى والشعر يختلس الشاعر
نبضا من فكره وفؤاده
تترامى النجوم بين يديه
فإذا هن أحرف من مداده
لكل هذا أصبح شعراً.. اختلاس المشاعر لشعره سرقة محبته إلى النفس وإلى الناس.. ملاحظة في البيتين الأولين استهفاماً دون علامات استفهام الملازمة؟.
ولأن القلم بالنسبة للشاعر أداة طرح فإنه يناجيه كما لو كان بعضاً منه:
طاف بي راكبا على صهوة الحرف
جموحا يختال في عنفوانه
ومدى افقه الرحيب خيال..
سابح والجمال قيد عنانه
وإلى شأوه البعيد اشرأبت
فكرة ثرة بسحر بيانه
يستطيب الرؤى الجميلة نبعا
عبقريا ينساب في الحانه
عرائس.. عنوان في تشويق وجذب وبعض من مداعبة..
انثري يا مباهج الحسن أحلام
العذارى على بساط العرائس
أطري الساحرين في محفل العر
س نشاوى من كف أهيف مائس
يسكب الحب في فؤادي ويزجي
بسمة الأنس في رحاب النواعس
أبيات ثلاثة تفيض سحراً وعطراً أخالها كافية لا تحتاج إلى إفاضة.. أختمها بهذين البيتين المسالمين:
أيها السامرون حبُ القوافي
شاعر يعشق الهوى لا يمارس
والصباح الملاح تعلم أني
رغم حبي لها فتى لا يعاكس
نهاية ملؤها العفاف والاستقامة.. ولأن الحب مصدر إيحائه الوجداني فإنه لا ينسى حبيبته:
أراك عند الفجر نبع السنا
وفي جمال الصبح نبع الجمال
وفي اكتمال البدر لألاؤه..
كأنما حسنك سر الكمال
أرنو إلى الأنجم مستفسراً
ان كان في الأرض لها من مثال
أجابت الأنجم: كل الذي
تراه فينا صورة أو خيال
من حبك المعشوق يا شاعرا
فهو السنا نبعا.. ونحن الظلال
حتى النجوم التي تبرق في كبد السماء تغار من حبيبته.. أية حبيبة هذه ساحرة فاتنة يا شاعرنا؟!
ديوان شاعرنا المتألق الشماسي متخم بالقصائد التي لا أقوى على الموقوف عندها لكثرتها.. استسمحه إذا ما تجاوزت الكثير منها لصالح بعضها.. أمامي لوحة بانورامية رسمها بريشته.. ولونها بمداده المتعدد الألوان والأطياف:
يميل به ذات اليمين وتارة
لذات يسار لا يمل به الميلا
ويبقى كمثل الموج يرقص زرقا
إلى أسفل حينا.. وحينا إلى أعلى
ويسبح في بحر من الشوق مائج
يرى كل صعب في تموجه سهلا
وكم شرب الماء الزلال وما ارتوت
تراثية العطش وقد نهلت نهلا
يعلُ مع الاصباح إن بات ناهلا
فما فترت كأس وان قد بدت كسلى
إلى أن يقول في وله:
مزيج كألوان الطبيعة ساحر
تراءت به الأطياف مترفة حبلى
يلوِّن اقوافه الحياة جمالها
ويضيفي فلا ضنا عيها ولا بخلا
كأن بها فينوس تسكب حسنها
ونزرع فيها من مفاتنها حقلا
أجدت يا شاعر في توصيفك للصورة وفي توظيفك للمفردات..
«الحب للشعر والشباب» لماذا اختصره شاعرنا.. مع أن الحب مشاع لكل شيء.. كل شيء.. أن يقول:
منازل الشعر عندي بعض ما ملكت
براعتي فهي لا تنفك في حرمي
اصطاد فيها بنات الشعر مدبرة
عني ومقبلة مني على أمم
واستطيب لقاها وهي شاردة
وحسبها أن قلبا بالعذاب رُمي
وحسبها انني حين ولهت بها
مليحة وهواها قد سرى بدمي
عشقتها.. وعشقت الذي في كنف
منها فإني على حبي لفي ضرم
ما عهدت شاعراً إلا محارباً بسيف شعره.. كيف هزمه العشق.. وارتضى المذل..؟ ويأتي دور الشباب..
خطى الشباب على هذا الصعيد ضحى
مطالع الشمس في الآفاق من علم
في كل خطو فرد منكمو قبس
للسالكين دروب العز والشمم
يبدو أنه جاء خارج إطار أيكة الحب..
شاعرنا يبدو أنه من عطش إلى آخر.. أنه لا يروي.. تارة يأخذها في قصيدة.. وأخرى يقول لها خذيني:
خذيني إلى مأواك طاب لي المأوى
بقربك حيث المن عندك والسلوى
خذيني إلى مأواك حسناء فالهوى
على كبدي جرح، وفي شفتي شكوى
خذي خافقي كيلا يمورن اللظى
ففي خافقي لو تعلمين لك المثوى
وإني لأخشى من لظى تشعلينه
وانت به المكون، والسر، والنجوى
يبدو أن المعزم والمتيم هذه المرة يؤذن في مالطه.. إذ لا حس. ولا خبر..
«حبيبتي الستون» من وحي احالته على المعاش:
يا أيها الشارد ان العمر والامل
عودا شباب فقد ازرى بي الملل
عودا على فرس الأحلام تسربها
كل الطموحات لا أين ولا كسل
ركبتها من سني العمر جامحة
فما استكانت وما أوهى بها وجل
وما استقرت على بلوى وان شطحت
بها المعاناة يحدو شدوها زحل
وهنا بيت القصد والقصيد:
ودعتهم بعد ستين وملء فمي
قصائد الحب تزجيها لهم قُبَل
ستون ما اطرحت عبئا كواهلها
وربما ناء عن اعبائه الجبل
ستون رحت أواسيها الاسى جذلا
وهل يواسي الأسى يوم الأسى جِذل؟!
أنه في صراع مع نفسه.. بين مرحلة انقضت وأخرى مستجدة.. غير أنه بيقين عمره يجتاز المرحلتين دون أن يصطدم بالحلم..
ستون تحملني لقزا ولو علمت
سري الليالي لعافت نومها المقلب
ستون تحملني نشوى على شمم
وكم تبتسم في غلوائها الفشل
ستون مركب أحلامي تهدهدها
خطى الثمانين لا ريث ولا عجل
ومن ذكريات تقاعده إلى اليتيم الذي أثار لديه الشجون.. وفجر عنه طاقة الحلم والأمل بحياة لا ألم فيها
راءك الصبح، لا جفاك الضياء
وعلى مقليتك يصحو الرجاء
على مسمعيك ينتحر الصمت
ويرتد في مداك النداء..
ويبدأ المشهد:
يا رغيفا تخيلتك اليتامى
كيف يحلو مع الدموع الغذاء؟
كبد حُرة. وقلب طموح
كيف لا يرتجي لديه الحناء
أيها البرعم الندى أراقت
من شعاع السنا لك الأكفاء
نسجت من أشعة الصبح بردا
عبقريا ديباجتاه الوفاء
وأفاءت به عليك لتبقى
في نعيم مهما استلظى الثواء
تمنيت لو أن شاعرنا الشماسي تناول اليتيم في تداعياته على الطفولة.. واستنهاضه لروح وطموحات اليتيم التي تشكل لديه قواعد لمقاومة البؤس الذي ألم به صغيراً وحرمه من حنو أمه طفلاً:
«فنجان قهوة» اثار لديه شهية الشعر.. وشرب القهوة.!
مرُّ بي والقهوة المرة شهد في يديه
شادن يسقي من الدلة لا من مقلتيه
كيف يسقي المر من يحلو الهوى في جانبيه
عجبا يمزح راحا ولظى في راحتيه
ليتها وهو يساقي قد أتت من شفتيه
شمعتان تتراقصان.. وتنيران الدرب: وتشعلان جذوة الحب..
أشعلي شمعتين حتى تنوري
دربك السمح في ضيا شمعتين
لا أريد انطفاء شمع حياة
انتِ فيها الشعاع من نورين
اشعليها في كل عام شموعا
واحرقي من لهيبها كل شين
واكتبي من شعاعها لغة الحب
بريئا من كل حقد ومين
واكتبي من دخانها لغة الكره
وحصبيه في قذى كل عين
يمضي في مخاطبتها بلغة الابوه الحانية.. الموجهة..
ابتني ذائب الشمواع روحا
من صفاء لا عسجد أو لجين
واقرأي في خلالها الأفق يستو
حي جمال الحياة من كل لون
ثم عودي إلى البروج وقومي
حطميها بركلة أو يدين
احضنيها. وقبليها. وصبي
خطرات الفؤاد من حرفين
شنفي سمعها بقولك بابا
أو بماما يا اجمل الابوين
هذه المرة خطابه الشعري عن مراهقه:
شابت وشاب العنفوان
معها فماذا يرجوان
وخبا اللظى المشبوب في
ومهادن بقي الدخان
وتململ الوهج الخجول
على منابت اقحوان
ظمئ الربيع بها دعا
ثت في مفاتها الحسان
أيدي الزمان ويا لهو
لـ شكاة ما عبث الزمان
والنرجسية ثورة المعتشرين حتى في الحسان
نوع مراهقته التي لم تريحنا.. كي نستريح من غبائها لما هو أجدى وأهم.. أنه في رسالة مملحة إلى أبي الطيب المتبني.. الكثير الكثير من ملحها، والقليل القليل من خنوستها..
عفوا أبا الطيب العملاق أن شطحت
بالقول شاردة أو عيب صادحه
فما رميت بسهم في مضاربه
الا دريش سهامي انت طابعه
ايا محمد يا نجوى على قلمي
شعري بربك يستطريه سامعه؟
ومن سيقرؤه وزنا وقافية
وقد أعدت لدى قومي مباضعه
هم يخطبون بنات الشعر غالية
والشعر عندك تغليه بدائعه
وتأخذه الأسئلة كل مأخذ:
قل لي بربك ربَّ الشعر ما صنعت
بك القوافي وفي مرحاك رائعه؟
هل ارتمت بك في أتون مخمصة
من البلاغة أم شحت منابعة؟
وهل ترجل فيها الشعر عن قدَمَ
عرجاء ليس بها تشفى مواجعه؟
وهل تبلد أفق في أصالته
وفي البداوة -لو يدري- مرابعه؟
لدى مضارب عبد القيس مولده
وفي محابرها النشوى مراضعه
وينتهي به الحوار.. وينتهي بنا إلى عند هذه الأبيات لشاعرنا، محمد رضي الشماسي من ديوانه «عنوان الحب»:
خذها إليك بني الشعر مألكة
يريدها وترى الشاكي وطابعه
أتت إليك تخب المسير مثقلة
عبر الزمان على الفصحى تنازعه
من بعد ألف وما نامت وما دسنت
ولم تُبل بمعسول مهاجعه
قالوا عن الشعر آراء وفلسفة
وغربلوه.. لكن أين نافعه؟
دع الغرابيل تروي نبض مشاعرها
وليس في نبضه الا ينابعه
ستدع الغرابيل مع شاعرنا الذي أخذنا معه في صولات وجولات كان فيها الرسام، والقبطان، والمحاور، والمناور.. والباحث عن شيء ما يحبه.. ويخشاه ويتوقف عنده لأنه شاعر.. وهكذا سجية الشعراء الهائمين بشعرهم.
- الرياض