(أ)
يُشاع استخدام «مصطلح التسامح» ويزداد تداولا بين المثقّفين والمتديّنين في مواجهة «الفتن الطائفيّة»؛ وإشكالاته الثقافيّة والدينية أنّ مفاهيمه الشائعة لا تتطابق مع مضمونه لغة واقتضاءً، إضافة للتعارض الحاصل من تأويل الأفرقاء للمصطلح فالأكثريّة تقدّمه على أنّه (الحلّ) والأقليّة تنتقده على أنّه (الإشكال) أمام مسائل التعدّدية الدينيّة وإباحة الاختلاف العرقي والإثني والثقافي؛ وتلك جميعةً من مسائل المواطنة ووعي المواطنة، والحقوق المذهبيّة وتشريعاتها، وغلبة الانتماء الوطني على أيّ انتماء فئويّ لمصلحة وحدة الوطن والمحافظة على قوّته في تنوّع مكوّناته المذهبيّة والعرقيّة، وهي مبادئ تتأسّس عليها الدولة الحديثة المدنيّة، وهي معاييرٌ تفصلها عن الدولة الفئويّة الغالبة، أيّا تكن هذه الفئة: (أكثريّة، أو أقليّة)؛ ولا يمكن للتشريع بمفرده أن ينجز مفهوم المواطنة بمعزل عن التربية والوعي، على مستوى التعليم والإعلام ومنابر المثقّفين والمتديّنين، لكنّه مسؤولاً عن ضبط التشريعات التي تمكّن خروج مفهوم المواطنة من نطاق الأفكار إلى حيّز الواقع ومسؤوليّاته.
والتعارضُ في الخطاب الثقافي السعودي -الهزيل تأثيراً وقدرةً والمعطّل للتفاوض السياثقافي- ناشئٌ من وقوعه تحت تأثير الخطاب الديني واقتباسه (الجُبّة الدعويّة) في صياغة خطاب لا يقلّ تطرّفاً عن خصومه؛ وإن كان الخطاب الديني لا يتعارض مع مبادئه في الغلبة والمغلوبيّة وامتلاك الحقيقة، فذلك مرّده أنّ الأحاديّة أساسُ قيامه فيما يعتقده حامل الخطاب وناقله، وعليه تكون مناقشته عبر مدوّنته المرجعيّة العريضة لأجل إخراجه من جمود الحقيقة إلى سيولتها، ومن ضيق الأحاديّة إلى سعة التعدّدية، أمّا إشكال الخطاب الثقافي حين يعارض الخطاب الديني ويحمّله وزر الطائفيّة وتعطيل التعدّديّة ثمّ يتناول جوهر خطاب خصمه بتغير الشكل دون الالتفاف للمضمون، ومن هنا تتلبَّسُه غواية «مصطلح التسامح» بين كونه دخيلاً من خارج الثقافة أو أصيلاً من داخلها، ويقع الخطاب في (اللبس الثقافي) حينما تناقض دفوعاته الأحاديّة مرتكزات خطابه التعدّدي؛ والخطاب هنا على المجاز، لطالما لم يستقلّ المثقّف السعودي بعد بخطابٍ مؤثّر، إذ تُحسب جُلّ مكتسبات المدنيّة لصالح الدولة في صراعها التشريعي والمدنيّ ضدّ ممثّلي التيّار الديني، على الرغم من عدم تماثل العلاقة بين السلطة والتيّار الديني، وبين السلطة والتيّارات الفكريّة والثقافيّة.
لذلك أزعم، أنّ أيّ خطاب سياثقافي يسعى للإصلاح فإنّه لا يجب أن يهمل الواقع، بحيث ينطلق في مشروعه من الواقع السعودي ذي الأكثريّة السنيّة والأقليّة الشيعيّة وذي الأعراق المتعدّدة على أكثريّة العرق العربيّ وأقليّات العرق الأفريقي والعجمي، والضرورات الواجبة لأجل حقوق المعتقد وسيولة الحقيقة والإقرار والانتماء للمواطنة داخل أتباع المذهبين الكريمين على أساس أنّ الوطنَ جامعٌ لأبنائه أيّاً تكن أعراقهم ومذاهبهم، لا ضالعٌ في الخلافات والمناحرات الفئويّة.
***
الظرف الآن مختلفٌ، والتدخّلات الخارجيّة في المنطقة العربيّة تزداد بعد انفجار الربيع العربيّ، استغلالاً لمسألة الأكثريّات والأقليّات ما بين تحريض خارجي وإهمال داخليّ؛ والمعوّل عليه زيادة الوعي الانتمائيّ للوطن وليس للمذهب، للوطن وليس للعرق، لأنّ المذهب معتقد خاصّ والوطن انتماءٌ عامُ، وأيّ مشروع للإصلاح السياسي الديني لا يلتفت إلى مسألة التسامح والغواية الواقعة بين الفئتين في تضارب حملان المصطلح لمفهومين متنافرين: (الغلبة والمغلوبيّة)، وكلاهما يتعارضان مع مضمونه، إنّما يحمّل المشروع نواة تعثّره، ويكون أقصى طموحه أن يكون شريكاً في الفساد لا مصلحاً له ومقوّماً لاعوجاجه ، كما أنّ إسناد مكافحة الفساد إلى الحالة ذاتها التي تفشّى فيها الفساد هي مسألة تتحمّل السلطة وزرها وقوى الرأي العام من رجال دين ومثقّفين ينشغلون بالشأن العام السياسي.
فالأكثريّة تحمّل المصطلح مفهوم الغلبة وحق المنع والسمح، والأقليّة تحمّل المصطلح مفهوم العفو والمغلوبيّة، وما يتضمّنه من دلالة جنائيّة ليست محلّها حقّ العيش والتمذهب، بينما تفكيك مصطلح التسامح لا يتوافق مع أيّ من المفهومين اللذين يتحمّلان معاً مسؤوليّة تعطيل مشروع الإصلاح الانتمائيّ للوطن وليس للمذهب.
(ب)
ماذا أقصد بغواية المصطلح: المقصد هو: (شيوعُ مفهومٍ يُعارض مضمونه، ولا تتماثل دلالته الشائعة مع دلالة أصله)، فما هو بالمصطلح الموجب ولا بالسالب. وعلّة الغواية في المصطلحات ناشئة لأسباب عديدة، منها: (اللبس الثقافي، غُربة المصطلح، ضعف الترجمة، شَرَك الترادف، ملكيّة الحقيقة)؛ لذلك يطمح المقالُ أن يناقش غواية مصطلح التسامح في الخطاب الثقافي السعودي الذي يحظى بدلالة مغايرة لمضامينه ممّا يدرج في نطاق رؤيتنا كونه غواية تُلْبِسُ الح لّ بالإشكال، واللَبْسُ هو الظنّ بأنّ المصطلح قادرٌ على حلّ الإشكال بينما هو جزءٌ من الإشكال ما لم يُرفع عنه التعارض والالتباس فيما يتداوله أفرقاء الخطاب الثقافي من مفاهيم تعارض دلالة مضمون المصطلح؛ هكذا تتعثّر الغاية من وراء استخدامه: فإن كان المصطلح محلّه استئصال الفتنة ومعالجة مخاطر الطائفيّة بين المذهبين الشيعي والسنيّ فإنّ الغاية لا تتحقّق ويبقى الخلاف الطائفي قائماً لأنّ مفهوم الأكثرية يمنحها الغلبة في الحقوق، ومفهوم الأقليّة يعطّلها من الانصهار تأثّراً بالمظلوميّة، وهكذا يكون المصطلح تبعاً لما تتداوله الأكثرية والأقليّة غير قادر على تنشئة المواطن والانصهار، إن لم تعالج بواطن اللبس الثقافي فيما يطرحه الفئتان وتؤثّر على فاعليّة المصطلح المدنيّة الانصهاريّة.
(ج)
تحمل (الأكثرية) لغة واصطلاحا دلالة التفوّق العددي، وهي عندنا لا تكون مترادفة مع الأغلبية، ولا شكّ تقابلها (الأقليّة)، بينما (الأغلبية) من غلب ذات دلالة القوّة والقهر والشدّة؛ وحين تحمل العامّة والخاصّة في الأكثريّة دلالة (الغلبة) في علاقاتها مع الأقليّات فإنّ علّة الخلل في مفهوم التسامح تبرز واضحةً تحت تأثير ملكيّة الحقيقة على اعتبار أنّ مالك القوّة الغالبة يملك الحقوق والامتيازات أيضاً، والفئات الأخرى مغلوبة على أمرها؛ وتبعاً لهذا الحملان الثقيل يسقط مصطلح التسامح في (اللَّبس الثقافي) حينما يُراد له أن يكون مدافعاً عن التعايش والمواطنة وإذا به يكون خصمها. كما تتبنّى الأكثريّة (ترادف الأغلبيّة) ومضمونه في منطق القوّة واحتكاريّة الحقوق والحقائق، فيتم تداول المبادئ المدنيّة باشتراطات غوايات التسامح؛ وهذا الترادف المعيب بين كلمتي (الأكثرية والأغلبيّة) يميل لإحلال مفهوم الأغلبيّة محلّ الأكثريّة، وهو ما يجعل الأقليّة (مغلوبة)، ويبدو الوطن كأنّه في حالة صراع بين أبنائه، وأنّ التعايش قائم على أسس الغالب والمغلوب، والمنع والسمح، أمّا حالة الانصهار فإنّها أبعد ما تكون.
أمّا الأقليّة، فإنّها تحمّل المصطلح مفهوم العفو والمغلوبيّة، وتعارض ما تظنّه التباساً في مسألة الحقوق بحيث يكون الاعتراض: (وأيّ جناية في حق المذهب تحتاج إلى العفو!)، لكنّ هذا المفهوم يخالف أيضاً مضمون المصطلح، إذّاك لا تفلت الأقليّة من (اللبس الثقافي) الناجم عن غواية المصطلح وخطأ ترجمته أو مقارنته بالمصطلح الغربي/Tolerance والذي تُرجم تعسّفاً (بالتسامح الديني) فأصبح فاسداً في محلّ استخدامه كوسيلة لتحقيق التعدّدية والحقوق المذهبيّة، فالأصل التاريخي في المصطلح المستورد هو (العفو الرومانيّ) عن نتائج الصراعات الدمويّة بين الطوائف المسيحيّة والوثنيّة في العهد الروماني، والعفو يحمل معنى الصبر والاصطبار على عدم الثأر والانتقام، وهو من المعاني اللغوية للمصطلح الغربيّ، والذي لا تستقيم مقابلته (بالتسامح) بل (بالعفو)؛ وهذا العفو لا يكون عفواً إن لم يكن الطرف المظلوم قد صار صاحب قوّة تمكنه من الاقتصاص؛ وشيءٌ من هذا في قولهم: (العفو عند المقدرة)؛ والعفو يكون بين طرفين غير متساويين في محلّ العفو: (طرف ظالم صار ضعيفاً، وطرف مظلوم صار قويّاً) هنا يأتي المفهوم واضحاً لا غبار عليه، ونجد ممارسته الإسلاميّة قد تمّت بأبهى صورها فيما يدوّنه التاريخ لواقعة دخول النبي العربي عليه السلام إلى مكّة فاتحاً، ثمّ متسائلاً: (ماذا تظنّون أنّي فاعلٌ بكم).
إذاً: فتاريخيّة المصطلح الغربيّ ومعانيه اللغويّة تميل إلى ترجمته (بالعفو الديني)، ممّا يرفع الغبش عن مصطلح التسامح ويحرّره من ثقل حمولات مصطلح آخر، هكذا لا يكون الفساد في التسامح إنّما في ترجمته، وقياسه وحملانه على معنى العفو.
***
هكذا نجد أنّ الغواية وقعت على الفئتين بمفهومين مختلفين: (مفهوم الغلبة وتقرير المصير، مفهوم العفو والمظلوميّة) وكلا المفهومين مخالفين لمضمون المصطلح ودلالته؛ ففي مقاييس اللغة أنّ (سمح) أصل يدلّ على سلاسة وسهولة، يُقال: سمح له بالشيء؛ ولأنّه يصعب تجريد المصطلح من دلالة أصله، وعليه يُبنى الاصطلاح بما يتناسب معه مدنيّاً، ويمكن القول مبدئيّاً: إنّ (التسامحَ) سلطة قوّة تملكها الدولة، وهو تشريعٌ مدنيّ يسمح بحقوق الجميع أكثريةً وأقليّةً دون غلبة وتخصيص امتيازات لفئة دون أخرى في محلّ الاعتقاد والعرق، فيكون مصطلح التسامح بعيداً عن غواياته ذا مفهومٍ يتعلّق بحماية المواطنة على أساس أنّ (التسامح/التشريع) هو من ملكيّة الدولة والشعب، وهو الحاضن والضامن للتعدّدية المذهبيّة وحقوق تشريعاتها المتعلّقة بمذاهبها، لكنّ هذا التشريع لا ينجز إذا لم تعمل التربية والوعي بين فئات الوطن على مستوى العائلة والمدرسة والجامعة والإعلام وكلّ منبر له قدرة على إضفاء الوعي بتنقية المواطنة من غلبة الأكثريّة ومظلوميّة الأقليّة، فالمواطنة والانتماء للوطن لا يتحمّلان ولا يصمدان أمام وهن المظلوميّة وثقل الغلبة.
Yaser.heazi@gmail.com
- جدة