لا شك أن للنحت تاريخه في محيطنا المحلي، الذي لا يقل عن تاريخه في مختلف بقاع الدنيا؛ حيث تحظى المملكة العربية السعودية من خلال مساحتها الكبيرة في الجزيرة العربية بالكثير من المواقع التي تحتضن مثل هذا المجال، الذي رافق الإنسان، ووجد فيه حلولاً كثيرة لحياته، وخصوصاً فيما يتعلق بالسكن، إضافة إلى ما يتم توظيفه في مجالات التخاطب والرسائل أو المعتقدات كالنقش والتصوير على الحجر والمواد الخام المتاحة لأبناء الجزيرة العربية.
وحينما نستعرض بعض الملامح عن النحت دون تفصيل فهي للربط بينه وبين المبدعين المعاصرين في زمننا هذا، الذين يعيشون هذه الأيام حالة من الإبداع بمستوى أكبر من المعتاد عبر سبموزيوم الدوادمي، الذي عني بعلاقة الفنانين السعوديين بالنحت رغم حضوره المتأخر، إلا أن الأمر لم يكن مكتسباً أو مستورداً من ثقافات أخرى كما هي اللوحة الحديثة (التشكيلية بكل سبل التعبير فيها أو وسائل التعامل معها)؛ إذ إن النحت جزء من سلسلة من التواصل التاريخي والفكري والثقافي والبصري، علق في وجدان أفراد المجتمع، وعشقته عيونهم نتيجة أمور كثيرة، منها ما يتعلق بالإعجاب بقدرات من سبقهم، جسدية كانت أو ذهنية، في كيفية التعامل مع تلك الخامات (الحجر والخشب)، واختراع الآلات التي تطوعها وتحيلها إلى قطع نفعية، ابتداء من المساكن وصولاً إلى أواني حفظ الطعام أو الماء، مع ما ارتبط به مفهوم تلك المنحوتات أيضاً بمعتقدهم الديني، حيث جاء ذكره في القرآن، وفُصّلت سُبل التعامل معه بإيضاح ما هو محرم وما هو مباح فيه، وبين الضار والنافع، شأنه شأن كل ما يتعامل به الإنسان في حياته.
وإذا أخذنا مدائن صالح بوصفها شاهداً بارزاً يثير الدهشة والإعجاب بما تبرزه من صلابة في الحجارة وأحجام لا تقل عن ناطحات السحاب، شامخة بشموخ الجبل الذي نحتت منه، وبما أُضيف لها من نقوش وزخارف تستعصي على جيل اليوم، إلا بما تمت صناعته من أدوات حديثة، لم يعد للإنسان مجال للإعجاب بقدرته فيها إلا بما يقوم به من ابتكار في التصميم مقارنة بما أبقاه الزمن والتاريخ في تلك المدائن من أشكال للطيور ورؤوس آدمية نحتت بدقة وإبداع، مع ما نتج من حفريات الفاو وغيرها؛ ما يزيدنا دهشة، وخصوصا التماثيل وخلافها، والكثير منها طوع ليخدم معتقدات وديانات قبل الإسلام، وصولاً إلى الأكثر اختزالاً وتبسيطاً في التنفيذ ومستوى الحاجة له المتمثل في النقوش على الجص، مع أن غالبية عناصره مستوردة أو مبتكرة من نقوش أخرى، لكن ما يعنينا هو النحت وما يقوم به العامل أو البناء في ذلك الوقت من إبداع في رص النقوش وتكرارها بشكل يدل على الإتقان، وأصبحت اليوم رموزاً تراثية يوظفها بعض الفنانين في لوحاتهم ويضيفونها على منحوتاتهم للربط بين الجديد في ابتكاراتهم ومرجعية فكرتها.
النحت السعودي وأسباب تأخر انتشاره
يمكن اعتبار ما ينفذ في مادة التربية الفنية في المدارس من أعمال تطبيقية، يُستخدم فيها مواد الجبس والحجر أو الخشب من خلال التعامل معها بأدوات الحفر الغائر والبارز في القطع الخشبية أو الحجارة المسطحة أو الكشط والإزالة في الكتلة، هي البدايات التي يمكن اعتبارها القاعدة التي انطلقت منها فكرة النحت بالمستوى الذي وصل إليه النحت اليوم بهذا الانتشار والتقدير والاهتمام. هذه البدايات التي مر بها كل من حظي بمعلم للتربية الفنية حريص على تنوع الخامات والتعريف بها وتعليم سبل التعبير فيها كان لها الدور الكبير في اتساع دائرة انتشارها. ويمكن أن نختار الفنان الراحل عبد الله العبد اللطيف وأمثاله في مختلف مناطق المملكة من المعلمين الذين أثروا الساحة بالفكرة، ونقلوها من حصة التربية الفنية إلى المجتمع والجمهور العام بأحجام أكبر وفي مواقع مهمة كمراكز الإمارات وغيرها. كما لا أنسى أن أشير إلى الأستاذ سليمان الرشيد، في مدينة جلاجل بمحافظة المجمعة، الذي كان له صيت وسمعة كبيرة في مجال النحت على الخشب، حاز بها جوائز متقدمة في فترة التسعينيات الهجرية (السبعينيات الميلادية)، لكن انشغاله في مجالات أخرى حد من حضوره التشكيلي، وأجزم بأن هناك الكثير من أمثاله بالمملكة.
هذا التحرك المحدود كان يسبقه أو يوازيه عدم قناعة من المجتمع المدرسي (المدير أو المعلمين) بمثل هذه الأعمال خوفاً من أن تتسع دائرة التعامل بها إلى الخطوط الحمراء المتصلة في صناعة التماثيل (الأصنام)، إضافة إلى أن ما كان يتم القيام به من إبداعات في النحت لا يتعدى حدود معارض المدارس فلا يعلم ما بها سوى المسؤولين عن التعليم، وهؤلاء (حتى اليوم) لا يهمهم ما يرونه من إبداع بقدر ما يعنيهم تنفيذ برامج للتغطية الإعلامية.
التحرك نحو الشارع
أما الأهم في أسباب حجب ظهور هذا الإبداع مبكراً فهو عدم الاستفادة منه على مستوى الشارع (الميادين والحدائق) إلى أن بدأ عدد من الفنانين طرح هذه الفكرة والتواصل مع المسؤولين في البلديات، وكان منهم الراحلان الفنيان محمد السليم وعبد الحليم رضوي اللذان قدما عدداً من المجسمات التي تندرج ضمن فنون النحت البنائية، باستخدام الوسائط كالحديد وخلافه، البعض منها ما زال قائماً، والبعض أزيل، وخصوصاً الأعمال التي نفذت في الرياض.
من هنا أخذ النحت موقعه، وفرض حضوره ولو بشكل هادئ ومتردد في البدايات لعدم إعطائه أهميته في المعارض أو منحه جوائز متقدمة عند المشاركة به في معارض الرئاسة العامة لرعاية الشباب وعبر مراسم الأندية.. مع أن قليلاً من تلك المشاركات كان مطابقاً لأسس النحت، والبعض اعتمد على اختيار القطعة وفقا لما توحي من معنى، ويتم تنظيفها وتلميعها، منها الخشب والعظام وقطع مخلفات ورش السيارات إلى آخر المنظومة (اختيارات سبقت وقتها). بهذا التنوع المتواضع تحقق للنحت حضوره، وبدأ التشكيليون (النحاتون) في تطوير أدواتهم واختيار مواضيع أعمالهم، وتزودوا بالكثير من الخبرات من خلال الزيارات التي هيأتها لهم المؤسسات المعنية بالفنون التشكيلية أو باجتهاداتهم الخاصة بالسفر وحضور المعارض المتخصصة بالنحت وزيارة ورش النحاتين.
خصوصية التنفيذ والتفرد بالمعارض
مع أن لنا خصوصية.. وهوية منطلقة من قيم دينية وأعراف اجتماعية، لا يمكن أن يحيد عنها أي فرد ولد ونشأ وانتمى إلى هذه الأرض الطيبة، إلا أن الفنون لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بعضاً في أي بلد في العالم؛ فالإنسان هو الإنسان في كل بقعة من الأرض، وكثيراً ما نشاهد أعمالاً متشابهة رغم تباعد المسافات بين من يقوم بتنفيذها، ومع هذا فقد جمع النحات السعودي بين الأصول أو الاختلافات، وخرج بإبداع يتقبله الجمهور وتتماشى مع القيم. هذا التوجه الذي أخذ ينتشر في كثير من المعارض، وينافس على الجوائز مع الأعمال الأخرى المعتادة المتمثلة في اللوحات الزيتية والمائية أو الخط العربي، وضع الجهات المسؤولة أمام الأمر الواقع بأن يكون له معرض مستقل كما جاء في مقترح من الدكتور عبد العزيز السبيل وقت عمله وكيلاً للشؤون الثقافية بوزارة الثقافة الإعلام، وكلف بتنظيمه النحات الدكتور محمد الفارس، وأقيم أول معرض للنحت عام 2006م بشكل مستقل تحت اسم معرض الأعمال الثلاثية الأبعاد بتنوع في الخامات بين الحجر والخشب، والتشكيل بالخزف والتشكيل بالحديد، شارك به بجانب منظم المعرض الدكتور الفارس نخبة من الفنانين، بلغ عددهم الأربعين، منهم د. صالح الزاير, وعلي الطخيس, وسعود الدريبي, وعبدالله المرزوق, وصديق واصل, وعبدالرحمن العجلان, ومحمد الثقفي, وإبراهيم بن عمر, ومحمد الأعجم, وفي عام 2010م أُقيم المعرض الثاني بالاسم المباشر لفنون النحت (معرض النحت الثاني)، قدم فيه مجموعة متميزة لنخبة من النحاتين من مختلف الأجيال كعبد الرحمن العجلان، وماهر الحمود، ونبيل هاشم نجدي، وأحمد عبد الله العبد رب النبي، ومحمد الثقفي، وصديق واصل، وطلال الطخيس، ومهدية آل طالب، وتركي الظفيري، وعبد الله محيا، وعبد الحميد الطخيس، وخالد الحربي، وهادي الدعجاني، وفيصل الخديدي، وبطي الباهلي، وعواطف القنيبط.
هذان المعرضان للنحت وما تبعهما من معارض يمكن القول إن أبرزها المعرض الجماعي الذي نظمه المركز السعودي للفنون بجدة، والمعرض الرباعي للنحاتين من مجموعة ألوان، تخللهما الكثير من ورش النحت، كما جاء بعدهم الكثير من الدورات الفنية في هذا المجال، قام بها أصحاب الخبرات الطويلة، منها الشخصي، والكثير تم بدعم من وزارة الثقافة وجمعية الثقافة والفنون.
إبداع منافس رغم شح الأكاديميات المتخصصة
واجه النحت في بداية انطلاقته وتحركه في الساحة الكثير من علامات الاستفهام حول إمكانية نجاحه وتحقيق البقاء والمنافسة في الساحة المحلية التي تسيطر عليها الفنون المسندية، وتلقى فنانوها بعضاً من أسس العمل الفني (الرسم والنحت) فيما سبق من معهد التربية الفنية أو أقسام التربية الفنية بجامعاتنا حالياً، أو على المستوى العربي، وخصوصاً أن هناك تجارب سابقة على مستوى الوطن العربي، غالبية من تعامل فيها مع النحت من المختصين والدارسين في أكاديميات الفنون في بلدانهم، فكيف سيكون للنحات السعودي هذه القدرات أو المعرفة بأصول التعامل مع قطعة الحجر أو الخشب، بناء على الفضاء المطلق المحيط بها، عكس ما كان يتعامل به الفنانون مع اللوحة التي يقوم فيها الفنان بتشكيل حجم الفضاء ومساحة الفراغ، ومع ذلك استطاع النحاتون السعوديون خوض التجربة، ورسموا لهم خط سير متميزاً.. وناجحاً ومنافساً، حققوا به جوائز محلية وعربية، وكسبوا من خلاله قناعة النقاد في كل موقع يعرض لهم فيه منحوتاتهم. هذه القدرات النابعة من مواهب فطرية تفوقت على مثيلاتها المدعمة بالدراسة نتيجة فراسة وذكاء الفنان السعودي الذي يمتلك عقلاً مبتكراً وعيوناً تقتنص الخبرات والتجارب، وتختزلها وتعيد توظيفها في الوقت المناسب.
جمع بين الإبداعين وتحول نحو الأفضل
الحقيقة التي يجب أن نوردها هنا هي أن عدداً لا بأس به من النحاتين بدؤوا فنانين عبر اللوحة، ثم تنوعت لديهم الإبداعات؛ ليجمعوا بين بعضها بعضاً؛ فأنتجوا أعمالاً مشتركة بناء على الفكرة التي تتطلبها كل خامة، والكثير من النحاتين كان له سابق تجارب ومحاولات تلمسوا من خلالها أسرار هذا الإبداع وكيفية ترويض خاماته الأكثر صلابة وقسوة، مواصلين سيرهم في تلك المحاولات إلى أن رست بهم سفن نحتهم على شواطئ آمنة، أخذوا فيها نثر إبداعات؛ فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من المعارض ومن المسابقات المحلية والعربية، منتظرين الخطوات الأكبر في تجميل المدن التي بدأت تظهر ملامح القناعة بها في السبموزيوم الذي أُقيم ضمن فعاليات صيف أرامكو 31، وأشرف عليه الزميل عبد الرحمن السليمان بمشاركة نحاتين عرب، منهم “توني بصبوص من لبنان ومنصور منسي من مصر وفؤاد بنفلاح من البحرين وسالم المرهون من عمان بجانب السعوديين علي الطخيس وعصام جميل وأحمد عبدرب النبي ود. محمد الفارس وفيصل النعمان”. والآن تعيش الساحة فعاليات السميوزيوم الأول لوكالة الشؤون الثقافية المقام في الدوادمي، بمشاركة كل من الفنانين النحاتين محمد الثقفي، عصام جميل، فيصل النعمان، صالح الجار الله، عبد الرحمن الشمراني، أحمد المالكي، فهد الدبيان، تركي الظفيري، طلال الطخيس، عبدالله الرشيد، سالم المرهون، حسن محمد حَمام، ثامر رجب، وإبراهيم سيد عبده سليم، بإشراف من الفنان علي الطخيس، وسينتج عنه إبداعات تجمِّل المدن.
monif@hotmail.com