توقفتُ طويلاً إزاء ما قاله عالم التشريح عمرو شريف من أن اكتمال تكوين عقل المرأة بيولوجياً يسبق نظيره في الرجل، كما أن عقل الرجل أنثويٌّ في أصله.
هذه الحقيقة أو فلنسمِّها النظرية البيولوجية تختلفُ تماماً عن الفكرة السلبية السائدة التي أخرجت عقل المرأة عن الرجاحة فضلاً عن قدرته على التفكر والتفلسف، وقد بلغت هذه الفكرة فداحتها حين تكرست لدى المرأة نفسها، فأصبحت تستغرق في السطحية «المتفرنجة» أو تُغرِقُ في العاميّة والجهالة بدعوى الأنوثة بُعداً عن الحكمة والرجاحة والاهتمام الثقافي الذي قد يقدح أو يتقاطع سلباً مع تكوينها الأنثوي على حد اعتقادها!
إن هذه المعضلة ليست وليدة الحقبة الراهنة بل إنها إشكالية تاريخية ذات أبعادٍ ذكورية وأيدولوجية وبيئية واجتماعية تعود في تشكّلها إلى ما قبل الفيلسوف المقدوني اليوناني «أرسطو» الذي رأى في المرأة رجلاً ناقصاً لا دور لها سوى الإنجاب وتربية الأطفال!.
وعلى مدى هذا الامتداد الزمني الهائل تكرست فكرة قصور عقل وعدم كفاءته للاشتغال العقلي الفلسفي واكتمل ذلك باستلاب المرأة فكرياً وعقلياً عبر التنميط المجتمعي، حتى أننا لا نجدُ فيلسوفة أو مفكرة واحدة تحفل بها المطبوعات الثقافية والفكرية وإن كان الفكر الفلسفي الإنساني لم يعدم الإرفاد النسوي إلا أنها بقيت أسماءً محدودة غائبة ذات نتاجٍ محدود أو متواضع، وقد أسدى البرفيسور إمام عبدالفتاح للفكر والمرأة خيراً حين كتبَ سلسلة «نساء فلاسفة» حيثُ حفلت بأبرز الفيلسوفات على امتداد التاريخ الإنساني وإن كانت الأسماء الواردة ك إيزارا وبركتيوني وهيباتيا ستكون محل استغراب وربما سخرية فيما لو طُُرحت، فلم نعتد إلا سماع أسماء كأفلاطون وديكارت وشوبنهور مثلاً، وهذا جزء بلاشك من الإشكالية التي تكتنف المرأة كمبدعة وفيلسوفة.
هذه السلسلة تكسر تلك الفكرة النسقية المفترضة اجتماعياً، يأتي هذا الكسر وفقاً لقاعدة أساسية في فلسفة العلم تقول بأن الظاهرة المغايرة الواحدة أهم عشرات المرات من آلاف الظواهر المعتادة لأنها تهدم صفة العمومية والكلية، وهذا ما سعى إليه البرفيسور إمام وتحدّث عنه بالإضافة إلى توثيق الإسهام الفكري النسوي.
إنني أرى أن الإشكالية تتجاوز ثنائية «المرأة والجسد» _التي ربطت المرأة بالعاطفة والجسد وتغييبها تماماً عن أي قدر العقلانية أو الرجاحة_ إلى ثنائية «الفكرة والجسد» حيثُ ارتبطت الفكرة المغايرة للنسق في المجتمعات الدوغمائية بالتفكك القيمي !، أي أن الفكرة الجديدة ستكون محل تشكك وارتياب في ثقافة العامة، وهي إشكالية واجهت الجنسين إلا أن المرأة بالأخص قد واجهت صعوبة أكثر في أن تسبر هذه المساحة الشائكة في كثير من المراحل الزمنية ما أدى إلى غيابها عن الساحة الفكرية، وقد غاب عن العقل الدوغمائي أن العقل لدى المرأة والرجل كان ومازال خصيماً للعاطفة والنزوات الجسدية التي يخافها ذلك العقل الدوغمائي ويتشكك إزاءها. لذا يبدو أن غياب العقل التوليدي (الإبداعي) والفلسفي النسوي هو جزء من إشكالية العقل النسقي التاريخية، ولإعادة موضعية العقل لدى المرأة لابد من تغيير الفكرة النمطية السلبية لدى النساء تجاه العقل ثم تجاه أنفسهن ثم تغيير تلك الصورة الذكورية المجتمعية تجاه عقل المرأة ونتاجها الفكري.
الجوف