في بيوتنا، لا تكف الأمهات والآباء عن الحمد على نعمة العائلة، وعلى نعمة «الجمعة» الجماعة، فلطالما كان لرابط الجماعة قيمة عالية في مجتمعنا، وربما كانت النساء أكثر من الرجال تقديراً لهذه القيمة، والمجتمعات العربية والشرقية عموماً تعتبر بأن قيمة الأسرة أحد أهم الركائز التي تميز ثقافاتها، وهي في شعورها الجمعي تعتبر أن العائلة المترابطة هي الفارق الذي تراهن عليه أمام الغرب الذي توج الفردانية كقيمة أساسية لتمدنه.
فإن كانت العائلة فعلاً تشكل قيمة الأمن والحنان والقوة في حياتنا وحياة أبنائنا، فلماذا يصيب أحدنا داء الوحدة في عائلة لا يقل أفرادها عن عشرة، ولماذا يشتعل الخوف في رؤوس الكثير منا، كيف يتسرب العجز والضعف إلى بيوتنا وهي عامرة بالأب والأم والإخوة والأخوات، هل ينقصنا أن نجتمع أكثر ونعيش بشكل أقرب لبعضنا، أقرب من سقف واحد يضمنا، أكثر من عمر كامل نعيشه مع بعضنا، أم أننا مصابون بداء القرب الذي أفقدنا القدرة على مشاهدة الصورة كاملة والشعور بجمالها، مصابون بانعدام المسافة التي تسمح لنا بإدراك بعضنا البعض، القرب الذي مزجنا في هيكل واحد كحبات التراب المحبوسة في قارورة ساعة رملية، فلم يعد أحدنا قادر على تمييز وجوده من وجود عائلة بسبعة أفراد وأكثر.
في الغرب الذي يكرهه آباؤنا لأن روابطه العائلية منحلة وأبناؤه ضائعون في وحدتهم، سيكون مفهوماً أن يشتكي أفراده من فرط الوحشة، سيبرر آباؤنا هذه الوحدة بغياب العائلة وقيمتها العظيمة، فبماذا سيبرر آباؤنا مشاعر الوحدة والخوف القاسي في قلوب أبنائهم الذين ينعمون في ظلهم، كيف تحولت البيوت إلى مساكن باردة ومخيفة وعاجزة عن توفير هذا الشعور الآمن لأفرادها، ألأن الأب لا يحضر الوجبات الثلاثة في أيام العائلة، أو لأن الأم لا تبذل ما يكفي من الوقت في تحضير طعام أبنائها!
هل يكفي وجود العائلة عن وجود الإنسان فرداً، أو أن فرط وجود هذه الجماعة هو الحلقة التي ضيقت وجود هذا الفرد وأضعفت إحساسه بنفسه، الحلقة التي أعجزت الفرد عن إدراك ذاته وسط هذا المجموع، كيف يصيب الأب الستيني الذي يحكم عائلة بحجم قبيلة حكماً كاملاً، كيف يصيبه الخوف من ليالي الوحدة، لأنه يدرك أن ما يربط عائلته به هو سلطته عليهم لا اطمئنانهم لظله، أو لأنه يدرك أن أبواب بيته التي أحكم إغلاقها، قد تنفتح يوماً فلا يعود إليه من استطاع أخيراً الهروب منها، هل حقاً ثمة فتاة سعودية تزوجت تحلم بالعودة لظل أهلها دون أن تخاف من ذاكرتها في بيتهم، وهل يحج أبناؤنا أفواجاً في أول أعمارهم إلى خارج بلادهم لقيمة العلم فقط؟ أو أنهم يهربون بأنفسهم من ضيق بيوتهم، يحجون لفسحتهم من الحرية التي قد لا تتجاوز حق إطالة شعر الرأس، حلق الشنب، واختيار ملابسهم بذائقة شخصية!
العائلة معنى جميل يحتمل الحب والأمان والدفء، لكن بيوتنا تأخذ قليلاً جداً من هذا المعنى، بيوتنا التي ضاقت بهذه العائلة بدل أن تعمر وتكبر فيها، لقد استبدت العائلة بقيمتها في بيوتنا حتى استحالت إلى قيد بقيمة سالبة لوجود الإنسان كفرد حر ومستقل له وجوده الذاتي الذي يختنق تحت سقف الجماعة التي تعامله كجزء لا كيان.
العائلة حتى تتحقق قيمتها، هي مشروطة أولاً وأخيراً بقيمة الفرد، لأن الأفراد مهما قل عددهم ولم يتجاوز الاثنين هم من يكون العائلة، لكن العائلة وإن تجاوزت عدد القبيلة لا تكون فرداً واحداً.
lamia.swm@gmail.com
الرياض