أرفع درجات القلم أن يكون كالعصا التي تقرع أجراس العقل، فيستيقظ على رنينها فكر الإنسان المغيَّب النائم على سرير الخنوع، ثائراً على مؤدلِجيه وقافزاً فوق أسوار حظيرة قطيعهم.
يعتقد البعض أن الكاتب القلق من الواقع المحتج عليه سعيد يتلذذ.. لا يا سادة - إنه يحترق ليخلق لهم الحياة الحرة السعيدة الجديدة بعد أن أنضجه الألم؛ ولذلك أقول لرفاقي أحياناً عندما أكون محبطاً من ردود أفعال البعض على أطروحاتنا: قمة المعاناة أن يقول إنسان: ليتني خُلقت محدود العقل غبياً جداً، لكي أكون سعيداً جداً، وقادراً على الانسجام مع الأكثرية والاقتناع بقناعاتهم.
أجل، إن محدودي القدرات العقلية والأغبياء والبله سعداء في غالب الأحيان، وهم الأكثرية في كثير من المجتمعات؛ ولذلك ينسجمون مع بعضهم، ويصفقون بحرارة لمن يكون أرفعهم صوتاً أو أكثرهم عملاً في تأييد الغباء والبلاهة، أو أشدهم بطشاً بالمختلفين عنهم أو معهم.
يهاجمونك بقسوة حين تحاول أن تبين لهم -مثلاً- حقيقة ذلك الواعظ الذي ملأ بغبائهم جيبه ذهباً وقصره خدماً وحشماً، بعد أن نجح في قيادتهم وتوجيههم إلى أهدافه الخاصة، بطريقة لا تختلف كثيراً عن طريقة الراعي الذي يقود قطيعاً من الدواب.
يهاجمونك بقسوة، ويشنون عليك غارات من الإساءة والتهديد والوعيد، إذا شعروا أن أفكارك تحاول تحريك مياههم الفكرية الراكدة الآسنة! لماذا ترفضون تحريك المياه الراكدة في أذهانكم؟ لماذا تعارضون الأفكار الجديدة؟! جربوا التفكير بطريقة جديدة..جربوا أن تتغيروا.. ماهي المشكلة؟ لا مشكلة في ذلك؛ فالتحوّل الفكري هو دليل نشاط العقل وتوقده، وكل شيء يتغير..
كل المفكرين والمعلمين والكتاب والمشرعين والمنظرين يتغيرون، وتتغير أفكارهم وأساليبهم وقناعاتهم بين فترة وفترة؛ حتى القرآن وهو القرآن تغيرت مواقفه وأحكامه وأساليبه، فكيف لا تتغير عقولنا وأفكارنا؟! نعم، لقد نُسخت آياتٌ كثيرة في القرآن الكريم خلال أقل من ثلاثة عقود، وقد تحدث العلماء عن الحكمة من ذلك النسخ وجعلوا له عدة أسباب، يهمني منها في هذا الموضوع سببان هما: مراعاة مصالح الناس، والتخفيف على المسلمين.
وبذلك تظهر لنا نعمة الله على البشر في نسخ الأحكام الثقيلة، والإتيان بأحكام أخرى أخف عليهم من جهة، وأصلح لهم وأنسب من جهة أخرى.
إن مرونة الإسلام ورفقه بأتباعه وقدرته على التكيّف والتغيّر بالشكل الذي يناسبهم ليست مقصورة في نسخ كثير من الآيات فقط، ففي مواقف النبي (ص) وأحاديثه الكثير من ذلك أيضاً.
أليس من الجميل بعد ذلك كله أن يتعامل علماء الإسلام وباحثوه ومفكروه، وخاصة من يتصدر للفتوى منهم، مع القضايا الحديثة بأسلوب المرونة والتخفيف على الناس والتساهل معهم، كما كان يتعامل الإسلام ونبي الإسلام عليه السلام ونصوص الإسلام مع المعاصرين للخطاب القرآني الكريم؟.
أليس من الأجمل والأفضل أيضاً أن نعيد النظر بهدوء في الأحكام والفتاوى الخاصة بكثير من الأمور المعاصرة، وفي طريقة التعامل معها..
إنه لمن الضروري جداً -إذا أردنا لمجتمعنا النهوض- أن يتم الحكم على قضايانا المعاصرة بمنظورنا نحن أبناء هذا العصر، لا بمنظور أسلافنا الغابرين الذين عاشوا في قرون بعيدة، تختلف طبيعة الحياة فيها تماماً عن طبيعة حياتنا اليوم! وختاماً أقول لفئة من بني قومي: إن دفاع الإنسان عن آرائه بافتعال الضجيج واختلاق العجيج والصراخ والنواح، أو بالسخرية من آراء المختلفين معه وانتقاص أشخاصهم والإساءة إليهم..
إن ذلك لا يحمي آراءه التي يريد حمايتها والدفاع عنها؛ بل إن ذلك لا يزيد الآخرين إلا استهجاناً لها، ونفوراً منها، وكرهاً لأصاحبها المقتنعين بها.
- الرياض