-7-
تتالت على المشهد المحلي - بداية من عام 1980م - وقائع سياسية وثقافية واجتماعية صعبة، تصاعد حولها السجال والصدام، وظهرت تبعاً لها ثنائياتٌ، أحاطتها الأطراف المتناحرة بالحواجز والقواطع.. ولأن جامعة الإمام وجامعة الملك سعود منطقتا اجتماع للرموز من العلماء والمفكرين والدعاة والنقاد والأدباء؛ فقد دخلتا حَلْبة الصراع من خلالهم، وأصيبت بالعدوى من هذه الثنائيات، فتعددت ملامح الانفصال، وحل الصدام محلّ التكامل، الذي عاشت فيه وبه الجامعتان منذ تأسيسهما. هذا التغير دفع فئةً في كلِّ جامعة إلى محاولة امتلاك المشهد، وإقصاء الآخر، إما بطريقة مباشرة، وإما بطرائق ضمنية لا حدّ لها، وما نزال نلمس - رغم امتداد السنوات، وتقليص الفارق بين الجامعتين على بعض المستويات - محاولاتٍ مماثلة، لولا أنها لا تجد من الدعم ما وجدته سابقاتها..
-8-
في منتصف عام 2002م كنت أشتغل على إعداد خطة لرسالة الماجستير حول الرواية النسائية السعودية، فتلقيت اتصالا من أحد أساتذة كلية اللغة العربية، اكتشفت وأنا بعد في عتبات اتصاله أنه يريد نصحي بالانصراف عن هذا الموضوع، وفي المتواليات اكتشفت أنه لا يمتلك إلا تعليلاً واحداً لهذا الموقف، هو أنّ رواية المرأة السعودية مجللة بالانحرافات الفكرية، وأن دراسة هذا المنجز من قبيل دعمه وإشاعته في الناس...، وحين أردتُ مناقشتَه في التفاصيل أغلق عليّ الطرقَ والطرائق، وأخبرني أنه سيقف ضدّ هذا الموضوع بما له من صلاحيات، وختم حديثه إليّ بما يشبه بيتَ القصيد، فقال: « إنّ الواجب على جامعة الإمام أن تنصرف عن أدبهم كما انصرفوا عن أدبها «.
لعبة الضمائر في خاتمة حديثه أربكتني، عرفتُ بعد لاحقةٍ - وربما لواحق - أن الضمير في (أدبهم) يعود إلى كلية الآداب في جامعة الملك سعود، وأن الضمير في (أدبنا) يعود إلى كلية اللغة العربية في جامعة الإمام... هذا الفصل البغيض يعني أنّ أدبنا (الواحد) قد أصبح بفعل المكاسبية المجخية (أدبين)، وأنّ الإقصاء وحده هو القادر على حماية أدب كلّ فئة، ولم تتوقف الأمور عند حدود الإبداع، فمناهج النقد، ومنهجياته، ونظرياته (هي الأخرى) ستخضع لفحص جاد قبل أن تدخل الجامعتين؛ لتتأكد كلُّ فئة من توافقها مع رؤيتها، وسلامتها من عوالق الفئة الأخرى...
مرت الأيام فنجحت الخطة، واستمر الباحث، ونوقشت الرسالة، بفضل الدعم الذي جادت به الجامعة بوجهها الحقيقي، أو بالجزء المتبقي من وجهها!
-9-
بعد عشر سنوات من ذلك الموقف نظم قسم الأدب بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام مؤتمراً دولياً بعنوان (الأدب في مواجهة الإرهاب)، شارك فيه عدد كبير من نقاد الداخل والخارج...، وفي زاوية من زوايا القاعة تجاذبتُ أطرافَ الحديث مع أحد النقاد العرب (يعمل في إحدى جامعاتنا)، وكان حديثه إليّ قد أفضى - في بعض منعرجاته - إلى حيوية جامعة الإمام، وأنها بدت له أكثر اتساعاً مما كان يظنّ، معبراً - في هذا السياق - عن استنكاره ذهابَ بعض الأساتذة في جامعته إلى التقليل من قيمة المشاركة في المؤتمر، وحين سألته عن مسوِّغاتهم، لم يفض إليّ إلا بمسوّغ واحد فقط، هو أن المؤتمر في جامعة الإمام، وأنه من تنظيم الجامعة نفسها! هؤلاء جميعاً كانوا ضحية الثنائيات الحدية، وإلا فلا يجهل منهم أحد أن مفردة الإرهاب إحدى المفردات المهمّة في الدرس النقدي، وأن هناك رسائل علمية، وكتباً، استهدفت هذه المفردة بالدرس النقدي على مستويي الرؤية والأداة، والمشاركة في مؤتمر يتناول هذه المفردة تتسع لنقد المؤتمر نفسه، والقائمين عليه، لكنه الإقصاء، ولا تسل - بعد ذلك - عن الجلادين والضحايا!
-10-
أخذت ممارسة الإقصاء من داخل المؤسستين بعداً أخطر، يمكن أن نتمثله في الجانب الإداري، وذلك حين سعت كلّ فئة إلى تحجيم حضور الجامعة الأخرى في نشاطاتها، وسأضرب هنا مثالاً بالموقف السائد من عدم استعانة كلية الآداب بأستاذ من كلية اللغة العربية لمناقشة الرسائل العلمية التي تجيزها في تخصصات الأدب والنقد، وإن كان هذا الموقف قد كُسِرَ بحالة يتيمة (العام الماضي)، فإنّ في جامعة الإمام من انتفض عندما سمع بمشاركة الغذامي في ندوة نقدية إلى جوار د. صالح رمضان (أحد أساتذة قسم الأدب بكلية اللغة العربية)، وبعض الذين قبلوا المشاركة أشاروا إلى أنّ جامعة الملك سعود قد ضيّفت الشاعر عبدالرحمن العشماوي في أمسية شعرية، وكذلك د. عبدالقدوس أبو صالح في لقاء علمي، وكأنّهم يقولون: « لا بأس، لتكن هذه بتلك «!! ولذلك كان للفئتين حراك داخل التنافس الذي شهدته انتخابات أدبي الرياض، وكان هناك كلام يدور بين الفئتين بضرورة كسب أكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس الإدارة، وكانت كل فئة تحمل داخلها الخوفَ من الإقصاء الذي ستتعرض له بمجرد وصول الفئة الأخرى إلى المجلس، ولستُ مبالغاً ولا متجاوزا حدود التوصيف الدقيق إذا قلت إن كل فئة تعرّفُ الفئةَ الأخرى بنسبتها إلى الجامعة التي تنتمي إليها، فالأولى: (أساتذة الملك سعود)، والأخرى: (أساتذة الإمام)!!
-11-
في الرسائل العلمية هناك احتفال من كلية الآداب في جامعة الملك سعود بشعراء الحداثة كالثبيتي والصيخان والحربي والحميدين، في حين كان الاحتفال في جامعة الإمام - إلى وقت قريب - بشعراء آخرين عرفوا بالنزعة الإسلامية، أو بالمحافظة..، وعلى المستوى النقدي كان الاهتمام الأكبر في جامعة الملك سعود بالمناهج والنظريات المستوردة، في حين كان الاهتمام الأكبر في جامعة الإمام بالنظريات التي صاغها التراث العربي، أو بالمناهج النقدية الخارجية، وأهمها التاريخي.
كانت هناك استثناءات تكسر القاعدة العامة التي عُرفت بها كلّ جامعة، لكنها لم تقم بأكثر من تأكيد وجود القاعدة الكبيرة التي كسرتها، لأن العبرة بالعنصر الغالب، وليس بالشذوذ، غير أنّ المهمّ هنا أنّ طلاب الجامعتين كانوا يدخلون في عملية برمجة رهيبة، تجعلهم ينظرون لأنفسهم على أنهم الزمن، وأن الآخر خارج عنه، وليس هذا فحسب، بل إن عددا كبيراً من طلاب الجامعتين ينقلون تموقفات أساتذتهم من أساتذة الجامعة الأخرى إلى طلابهم، دون أن يكلفوا أنفسهم بالتواصل مع منجز الآخر، أو معه.
هي عملية إقصاء، اختلطت برؤية كل جامعة، وبملابسات الوقائع التي أفرزتها، ووجدت لها مسوغات في طرائق التعليم، وفي أساليب الإدارة، وما تزال الأجيال الجديدة تمر بها أو ببعض أطلالها، وهي تعيش زمن (الحوار الوطني)، و(حوار المذاهب الإسلامية)، و(حوار أتباع الديانات)!
-12-
في ظني أنّ هذه الانفصالية، وهذه الانقطاعية السائدة، لا علاج لها إلا بتوجه الجامعتين إلى (تكريس) مبدأ التواصل بين أقطابهما العلمية والإدارية، وإلى تبادل الزيارات والدعوات، وطلب المشاركة في الأنشطة، فهذه الممارسة هي التي تملك كسر الصورة المنمطة لكل جامعة في ذهنية الآخر، وهذا ما رصدته بنفسي، فحين أسند قسم الأدب إلى د. حسن النعمي (الناقد المعروف) مناقشةَ رسالتي في (رواية المرأة السعودية) افتتح المناقشة بثنائه على العقلانية السائدة في الرسالة، وأتبع هذه الإشادة بقوله : «وحتى أكون صادقا معكم فإنني لم أكن أتوقع أن تصدر رسالة بهذه العقلانية من جامعة الإمام، وكل الذي كنت أتوقعه أن تكون الرسالة ضيقة الرؤية، ومتحاملة على المرأة وروايتها «، كانت عبارة د. النعمي محرجة بالنسبة إليّ فسعيتُ إلى إنقاذ الموقف بالإشادة بأساتذتي، الذين دعموا هذه الرسالة ورؤاها، وفتحوا المجال أمامي لأمارس اجتهادي في جوّ مريح، لكنّ د. النعمي قتل محاولتي البائسة حين عقب عليها بقوله : « ما قلته صحيح، بدليل أنهم سمحوا لي بالجلوس في هذه القاعة «! كان واضحاً أن الصورة النمطية التي التقطت لجامعة الإمام قد تجذرت في ذهنية المثقفين من خارج الرياض (يمثلهم هنا النعمي)؛ لذلك وجد نفسه أمام مفارقة بين معهود ذهني وملامسة مباشرة...، لكنّ المهمّ في هذا الموقف أنّ أربعَ ساعات فقط، كانت كافية لأنْ يكتسب ناشط في الساحة الثقافية بحجم د. النعمي صورةً أخرى لجامعة الإمام، تظل في أسوأ حالاتها أجمل وأجلّ من الصورة السابقة.
كان من بين الذين حضروا المناقشة د. معجب العدواني (الناقد المعروف)، وكان قد استمع إليّ وأنا أُدْرِجُ - أثناء المناقشة - روايتَي (بنات الرياض) و(ملامح) تحت الموضوع الإسلامي في رواية المرأة السعودية، وفي اللحظة نفسها كان إلى جواره الزميل الجميل عبدالله العريني، الذي شرح له فكرة رسالته العلمية التي نوقشت في الجامعة نفسها تحت عنوان (أثر الإسلام في شعر النصارى في العصر العباسي)، لم يجد د. العدواني إزاء هذا الموقف إلا أن يمازحني بقوله : « ياناس من جِدّكم هذي جامعة الإمام «! لستُ بحاجة إلى الإشارة إلى رجاحة عقل الرجلين، وسعة أفقهما، وأنهما لم يكونا من أهل الإقصاء ولا من ضحاياه، ولكنني في الآن ذاته أقدّمهما هنا بوصفهما نموذجين مهمين لقدرة التواصل المباشر على كسر الصور النمطية.
-13-
إن الأجيال الجديدة التي أخذت طريقها اليوم إلى الجامعتين، سواء في عضويتهما التدريسية، أو في مناصبهما الإدارية، مسؤولة عن إعادة المياه إلى مجاريها، ووضع التكامل والتواصل موضع الصدام والانفصال، وعلى الواعين في الجامعتين مهمة كبيرة في إغلاق منافذ الإقصاء، والقضاء على صور المكاسبية، ومتى تراخت أجيال المستقبل عن هذه المهمة فهذا يعني تنازل الجامعتين الكبيرتين عن دورهما القيادي، ويعني أيضاً أن الوسط الأكاديمي ليس إلا مطبخاً فاخراً للعيوب التي تعرش على جدران المجتمع، يقدمها للمستهلك بشكل أجمل، وبطعم ألذّ!
- الرياض
@alrafai