تكشف التماثيل التي صنعها قدماء المصريين عن مشهد غريب يبدو واضحا في صورة الفراعنة المتمثلة في وجود أثداء للفرعون، ولم تكن هذه الصورة المرسومة ناتجة عن عجلة النحات، بل تم وضع هذه الأثداء بوعي شديد، فهل كان الرسام يعبر عن واقع حقيقي؟
لم يكن فرعون إله خصب فحسب، بل تجاوز الألوهية المحدودة إلى الربوبية المطلقة حينما قال: « أنا ربكم الأعلى «، ولم يقتصر النحات على تجسيم الفرعون، وإنما اختلس شعور الناس المحيطين به فضمه إلى الصورة، فهم بالنسبة له كالرضيع الذي لا يمكن أن يستغني عن ثدي أمه، فهي التي تمنحه الحياة، وتهبه الدفء، وتنعم عليه بالصحة، هي من خلقته (في العرف الوثني) وجاءت به إلى الوجود.
كل هذه الشحنات حملها تمثال فرعون، صدَّق ربوبيته التي سكنت جسمه، وصدَّقها المحيطون به، لقد وصل إلى درجة من الهوس بذاته لا ينفع معها أي خطاب حِجاجي ؛ ولذا لم يحاول نبي الله موسى أن يجادله حتى بالألفاظ الإلهية المعجزة.
سلك موسى عليه السلام بتأييد من ربه سبيل المعجزات التي تفاوتت ما بين إظهار صدق نبوته « فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين « وما بين آيات التهديد والوعيد التي نزلت بفرعون وقومه « القمل والضفادع والدم «.
وعلى الرغم من الهزيمة الكبرى التي تعرض لها فرعون في موقعة إلقاء الحبال والعصي، وعلى الرغم من إيمان سحرته برب موسى وهارون لكنه استمر في عناده وصلفه، فأمر بقتل السحرة التائبين وصلبهم؛ لأنهم لم يأخذوا من ربهم الفرعون الإذن « آمنتم به قبل أن آذن لكم» سوَّغ فعله بأن ما تم لا يعدو أن يكون مكرا مدبَّرا من السحرة وكبيرهم « إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها «.
كان فرعون يستمد قوته وجبروته من تقديس عبيده له، يؤمنون به، ويصدقون كلامه، فيصدقه هو، انعكست الآية مع فرعون فأصبح هو من يلجأ إلى اللسن والحِجاج وليس نبي الله موسى، بدأ يسوق حججه تترى :
-أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.
-أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين.
هذه الأنهار الجارية، وهذا الملك المطلق هل يمكن أن يكون لغير إله ؟ هكذا كانت تصريحات الفرعون، ويقارن حاله بحال موسى ليظهر الفرق على الملأ فيقول : إنه لا يمتلك شيئا مما أملك، فأنا فصيح ناطق، وهو لا يحسن إخراج الحروف، ولا يتمكن من إيضاح ما يريد، ثم أنا سليل آباء معروفين، أما هو فلا نعرف له أصلا، بل أنا الذي أنعمت عليه بالحياة « ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين «.
وتبلغ عنجهيته قِمَّتها حينما يعلن على الملأ أنه سيبحث عن إله موسى، فيقول في تحدٍ سافر « أوقد يا هامان على الطين « ألا ما أسوأ التجبر البشري، على أي صرح سوف تصعد، وإلى ماذا تريد أن تصل « لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا «.
إن فرعون يقامر بحياته أمام الملأ؛ ولذلك صدقه قومه، قتل السحرة، فأين نصرة ربهم ؟ لم يصبني شيء، كان الله يمهل ولا يهمل، فمقاييسه غير مقاييس خَلْقه، يملي لهذا الجبار حتى إذا أخذه لم يفلته.
ويستمر مسلسل الغطرسة حتى النهاية، لا يتزحزح فرعون ولا يقدم أي تنازلات، فهو الرب المعبود، وهو المتحكم في الكون، يلاحق موسى وأصحابه، وأمام هذا البحر الهائج المائج يضرب موسى بعصاه فينفلق البحر، يا لها من معجزة ! طريق يابسة في البحر، وأمواج عن اليمين والشمال.
اعتقد فرعون السادر في غيه أن البحر انفلق من أجله وبأمره حتى لو لم يصدر أمرا صريحا له، فالبحر يسير على ما يهوى فرعون الذي كان يريد لهذه المطاردة أن تستمر وأن يصل إلى موسى وقومه بقوة جيشه وليس بسبب حائل يحول بينهم وبين الفرار، فتلك الصورة لا ترضي غرور فرعون؛ ولذا رأى أن انفلاق البحر معجزته لا معجزة موسى، لم يتردد لحظة في اقتحام اللجج واللحاق به.
شق فرعون البحر وسار بكل ثقة، حتى إذا اكتمل أصحاب موسى خروجا، وأصحاب فرعون دخولا أطبق البحر، ونزل العذاب، تعالت الصيحات : أين قدراتي وإمكاناتي ؟ الإله لا يموت بهذه الطريقة، شعر أنه لا يملك من أمره شيئا، أدركه الغرق، وأحس لحظتها بأن قناع الربوبية يسقط من عليه، فنادى « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين «.
لا جدوى من هذا الكلام « آلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين «، ولذلك عاقبه الله لشدة تكذيبه بعقوبتين عاجلتين قبل يوم القيامة، تتمثل الأولى في خروجه ميتا غريقا في مشهد مهيب يكسر كل الطغيان « فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية «، وتظهر الثانية في عذاب يحل به قبل قيام الساعة « النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب «.
ألا ما أقبح الحِجاج حينما يكون سلاحا للباطل، وما أسوأه حين يكو ن لبَطَر الحق وغمط الناس، لقد عبر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن هذين الموقفين أجمل تعبير، فحين قال المعترض على دفع الدية « كيف أدي من لا شرب ولا أكل. ولا نطق ولا استهل. فمثل ذلك يطل « قال الرسول إنما هو من إخوان الكهان، اللهم لا تجعلنا منهم.
- الرياض