من أين أبدأ الكتابة عن «مليكة الكبرياء والكلمات» من قامتها الممتدة راية وسارية وأشرعة مشرعة للشمس والهواء الطلق عبر القارات.
أو من برق وسمها كلما وطأت قدمها أرض الجزيرة.
حين استلمت نسختي الإنجليزية نهاية السبعينات الميلادية من كتاب الفنان التشكيلي كمال بلاطة «نساء من الهلال الخصيب» لم أنم تلك الليلة من الفرح ليس لأن قصائد من شعري كانت من مختارات الكتاب ولكن لأن الكتاب ضمني مع سلمى الجيوسي الرمز النسوي والوطني والشعري لنساء الوطن العربي التي كنت فتحت حواسي على اسمها.
أردت للكون كله أن يشاركني نخب تلك اللحظة ولما لم يكن بجانبي إلا «لين» طالبة الهندسة الأمريكية وشريكتي بالغرفة 201 فقد سهرت أقرأ عليها سلمى الجيوسي إلى ما بعد منتصف الليل فلما نامت لين أسقط في يدي وكدت أموت من فرط كمد أن أعيش لحظة الفرح وحيدة لولا أن قررت وقد قارب الفجر أن أحمل وحدتي وأبحر في الحبر إلى صاحبة الأمر نفسها فهي وحدها التي عليها أن تتحمل أوزار ما أثاره حضورها في كتاب الهلال الخصيب من بروق ورعد وأمطار.
كتبت لها:
“Queen of wounds and words”
بهذا النداء تعود قلبي وقلمي أن يفتتح رسائلي لسلمى خضرا الجيوسي منذ رسالتي الأولى (التي كتبتها لها ذلك المساء قبل ثلاثين عاماً وعلقتها على جناح طائر الأشواق فيما فتحت نافذة غرفتي بأوديل «دورم جامعتي لويس آند كلارك بالشمال الغربي الأمريكي بمدينة بورتلاند / أوريجن على أمل أن تستطيع صبية صغيرة أن تلامس مخمل السماء), إلى رسالتي التي كتبتها لها من لندن عندما كانت تزور الرياض في شهر ديسمبر الماضي 2009 وتفطرت روحي أن تمر الحورية الدائمة الشباب بعنفوان موكبها على أرض وطني ولا أكون كعادتي في استقبالها بحلل الحب.
في مطلع النصف الأول من الثمنينات لم أكن أعلم أن طاقة القدر ستفتح لي على مداها لألتقي تلك السيدة المسيجة بالمجد وجها لوجه. كان ذلك عندما كانت جامعة الرياض وقتها/جامعة الملك سعود في أوج تفتحها بأولئك الأكاديميين الذين كانوا في شرخ الشباب الفكري والوطني دكتور منصور الحازمي ودكتور عزت خطاب ود. شكري عياد/ مصر وسواهم.
كانت الجامعة تشرع أبوابها على مد التجديد الأكاديمي وتيارات الأدب الحديث, وكانت باقة من الأصوات السعودية الشابة المجددة شعراً ونثراً قد بدأت تمد نسغها في تربة المد التحرري العربي إبداعياً حين حلت سلمى الجيوسي ضيفة على البلاد لتبدأ مع الجامعة مشروعها العالمي الأول من نوعه في تاريخ الثقافة المحلية في ترجمة أدب الجزيرة العربية الحديث. حضرت سلمى على مد هامات النخيل بعليشة لتلتقي بالنساء من أستاذات وطالبات في محاضرة نقدية لها عن حركة الشعر الحديث بالوطن العربي.
كنت ومجموعة من الزميلات معيدات مستجدات على حقل العمل الأكاديمي ولا يزال البعض منا مشتعلاً بروح طلابية يملأها صخب وشغب أسئلة الفضول المعرفي التواق. ولذا فعلى الرغم أننا جلسنا في الصفوف الخلفية وسط الطالبات يتقدمنا «الدكتورات» ومعظمهن من بلاد مصر والشام سوى دكتورة هند الخثيلة ود. حكمة عرابي ود. خيرية السقاف, فقد قالت تلك السيدة المهيبة حين بدأ النقاش بعفوية مستفزة لبعض دكتورات الصفوف الأولى «زيحوا قليلاً أريد أن أنظر في عيون هؤلاء البنات ذوات الأسئلة الزكية».
كم عقد مضى على تلك الجملة الجريئة التي ضجت لها القاعة بتصفيق الطالبات إلا أنها بقيت عالقة بعقلي وأصبحت مبدأ فيما بعد وأنا أتدرب وأتدرج على السلم الأكاديمي في علاقتي مع الطالبات وفي احترام عقولهن وأسلئتهن كذوات محملة بالمواهب والقدرات.
لم أعرفها على نفسي في المحاضرة ولم تكن قد رأتني من قبل إلا أنها اتصلت ببيتي في المساء لتطلب قصائدي الجديدة, لترى ما إذا كان هناك ما تنتخبه منها ليكون من ضمن مختاراتها لأدب الشباب في مشروع ترجمة أدب الجزيرة الحديث. فما كان مني إلا أن تشجعت وذهبت لزيارتها في فندق الحياة ريجنسي بشارع المطار القديم الذي كانت تستضيفها به الجامعة. وكم كانت مفاجأة سلمى طفولية حد العناق عندما وجدتني واحدة من أولئك المعيدات المتموجات بالأسئلة في محاضرتها بالجامعة اليوم السابق. وعندما بحنان يقطر أمومة وحميمية وبختني لما خالته «اختبائي عنها» موهت إحراجي بضحكة لا تخلو من المكر الطفولي لئلا أخبرها بأنني فعلت ذلك لأنني لشدة رمزيتها في وجداني لم أكن أريد أن أتعرض فيها لأي من الخيبات التي عادت ما يصيبنا بها أغلبية الرموز عندما نخرج معهم من العلاقة بالنص إلى العلاقة بالشخص. إلا أنني أجزم بأن سلمى هي الاستثناء في غالبية رموز الإبداع العربي ممن عرفت التي يستحيل أن تجد فجوة بينها وبينها أو بينها كرمز إبداعي ووطني وبين سلوكها اليومي الإنساني. فهي إنسانة بسيطة ومركبة, حالمة كفتاة صغيرة صلبة كمناضلة عتيدة وعنيدة, مشحونة بالحنان والحزم, بالليل والنهار, شمسها شموس وظلها ظلال, لؤلؤة وادعة وموجة طائشة.
فهذه السيدة السامقة كما عرفتها ويعرفها العالم بأسره تجمع بين حس التزام مستميت بالقضايا العربية والإسلامية الكبرى وخاصة في بعدها الوطني والحضاري والوجودي وبين طاقة لا تحد في اجتراح الحرية. وهي في نفس الوقت تمتلك روحاً مرحة وحساً ساخراً يحفل بما يحمله جيل فلسطيني عريض من ذلك الحس الموجع الممزوج بفجيعة الاحتلال والتهجير وهيبة الخيبات السياسية أمثال إميل حبيبي وناجي العلي. إلا أن ذلك ليس إلا بعد من أبعاد شخصيتها الفريدة التي يحتاج المرء فيها لأكثر من عمر ليحصيها.
وقد تعلمت يوما بعد يوم من علاقة عميقة معها, تنقلت بين بيروت وبغداد والقاهرة وعمان وبوسطن والرياض وامتدت عدة عقود مع أسراب سلمى المتعددة بأن المبدع الخلاق لا يستطيع أن يكون إلا إنساناً خلاقاً في سلوكه اليومي أيضاً.
لمست ذلك لمس الأصابع العشرة في تعاملها مع نفسها ومعي ولاحظته في علاقاتها مع القريبين منها جداً مثل بناتها مي ولينا أو البعيدين عنها. فالنساء والرجال يدخلون وجدانها على قدم المساوة. لمسته أيضا في عملها سواء عندما تكتب أو عندما تنتخب مختاراتها الإبداعية للترجمة. فكتابتها في تزكية نجيب محفوظ لجائزة نوبل التي ساهمت فيها بصمت في ترجيح كفة الأدب العربي للفوز كانت إعادة إنتاج جديدة لأناهيد النيل ولحواري مصر ولقصص عشقها وثوراتها ولكفاح فلاحيها وعمالها ولزغاريد عرائسها وأحزان صفصافها بشكل لا يملك كل من يقرأها إلا استعادة عز مصر في ومضة قلم غير آبه بإنكسارات الأنظمة.
فعلت ذلك أيضا وهي تحفظ بترجماتها العظيمة هوية القدس من التهويد والهزائم, مثلما فعلته وهي تسترد بهاء الأندلس وتعيد به توزيع أمجاد الحضارة العربية الإسلامية على الخارطة الدولية. وبشكل مضاهي لما كتبته عن نجيب محفوظ كانت كتابة سلمى الفارهة عن فدوى طوقان حيث سمتها صاحبة الهيبتين الحب والألم ولم تكتف بتلك التسمية المهيبة بل توجت علاقتها برفيقة الدرب بترجمة مدهشة لرحلتها الجبلية الصعبة، مضيفة بتلك الترجمة لعشاق شعر فدوى عالميا عشقا جديدا وهو عشق تلك الدروب التي سلكتها فدوى طوقان بجسدها الريحاني النحيل من فلسطين وإليها. والملاحظة الخلابة هنا هو قدرة سلمى على خيانة تلك العلاقة الدسائسية الموروثة بين النساء والنساء واستبدالها بعلاقة تفور بذلك الحب السوي الذي يربط بين النساء والنساء في العمل والأمل. شهدت على ذلك بنفسي في علاقتها بالدكتورة فاطمة موسى وبحسناء مكداشي وبالروائية اللبنانية هدى بركات ود. سعاد المانع ود.هتون الفاسي وبالكثيرات من جيلها وجيل تلميذاتها وهي بالمناسبة صديقة حميمة لأمي نور الهاشمي وابنتي طفول العقبي وأختي حسناء. لذا لم يكن إلا قليل في حقها حين كتبت أهديتها قصيدة مطلعها:
«سيطلق الصبايا والشباب يوماً أبصارهم باتجاه مشرق الشمس وينشدون سلمى أطلت من هناااااااااااااااا»
الرياض