أشعر أثناء اللقاء مع سلمى وبعده بشيء من عودة الروح. وعلى الرغم من عمري وعمرها المتقدم في السن، أجلس إليها وكأننا سنبدأ الآن حياتنا الفكرية ونشاطنا الثقافي، دون أدنى حس بالإعياء، مع الاعتقاد بأننا أدينا واجبنا للثقافة العربية. إلا أن كل شيء يتراجع أمام همة اللحظة وطرح المشاريع الكبيرة التي تقدمها وتحضرها سلمى لتنفذها في المستقبل. هذه المشاريع ليست نظرية بل تتحول إلى برنامج عملي وكتب ومراسلات ومناقشات جادة. وإني أقدر عالياً ما قامت به سلمى لأجل الثقافة العربية وذلك من خلال قدرتها على تكريس نفسها بهذا الشكل لخدمة الفكر الإنساني دولياً فقد خدمته في مجال الفكر والأدب والرواية والشعر. لا أعرف أحدا بهذه الطاقة المنتجة، لهذا أقول وحده إن اللقاء مع سلمى يمنحني شغفا لاستعادة حيويتي.
كنت طالبا في الجامعة الأميركية في بيروت بعد أيام من صدور مجلة شعر وكانت سلمى الخضراء الجيوسي مع فدوى طوقان الاسمين النسائيين الأبرز في (خميس شعر) الذي ضم أسماء كثيرة معروفة
ولكني لم ألتقِ سلمى شخصيا إلا في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية وذلك في لندن. نحن جيل الستينيات يبقى اسم سلمى حاضراً فينا لأنه انطبع في ذاكرتنا وذاكرة المثقفين بترجمة رائعة ل (رباعية الإسكندرية) لورنس داريل. ترجمت سلمى في حينه الجزء الأول والثاني من هذا العمل. وكان الجميع يعتبرهما نموذجا أعلى لترجمة الرواية. كذلك نشاطها الهائل بعد ذلك في مقتبل التسعينيات عندما أصدرت كتاب (إرث اسبانيا الإسلامية في الأندلس). في تلك الحقبة كان هناك اتجاه للتحدي في الغرب ضد العرب فانبرت سلمى لتفند هذه الإشكالية وبذلت جهودا جبارة فأخرجت هذا الكتاب مستكتبة عددا كبيرا من خيرة الأخصائيين والخبراء والعلماء في تلك المرحلة التاريخية لتغطي جميع مناحي الحضارة الاندلسية بدراسات معمقة في التاريخ والعلوم والمعمار والفن والشعر والموسيقى والأدب إلخ. وأقول هنا للتوضيح فقط إن هذا الكتاب لم يكن مكرسا من أجل تمجيد اسبانيا ذلك الزمان، لكن لمجابهة التحدي الكبير إزاء حضارتنا في أوروبا واستطاعت من خلال هذا الكتاب تقديم إجابات حقيقية على مستوى (سوبر أوربي) فكريا وعلميا وبحثيا وتوثيقيا.
ثم إن الترجمات العربية إلى اللغات الأوربية كثيرا ما تقوم بنشرها دور نشر أوروبية هامشية او يسارية لكن سلمى اقتحمت بعملها أرقى دور النشر العلمي في العالم (دور نشر الجامعات) وتمكنت من إدخال مجلداتها بالخط العريض عند أرقى دور النشر في الغرب واضعة نتاجها الكبير عن الحضارة العربية الإسلامية وفي الشعر والرواية والأدب الفلسطيني والعربي الحديث والمسرح على رفوف مكتبات أهم جامعات العالم، وباتت كتبها مرجعا أساسيا مقدسا لكل الباحثين والمهتمين بالثقافة العربية.
بعض المثقفين العرب فقدوا الانغماس في الثقافة العربية لكن سلمى استمرت بحيوية فائقة بالانغماس بالهموم والقضايا العربية وهذا وفاء وميزة نادرة لا تتوفر في أي شخص.