إن الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، هذه المُبدعة التي أُعتز بأنْ أعتبرَها لسنين طوال زميلةً وصديقةً معا، هي بكل المقاييس باحثةٌ من الطبقة الأولى. أضفْ إلى ذلك أن صفتًها تلك إنْ هي إلا متمِّمةٌ لطاقتها المُهمّةِ كشاعرةٍ نالت الشهرةَ قبل تكريس نفسها لعملها الكبير الذي حمل ثقافة أمتها للعالم أجمع.
إنها حقاً لباحثةٌ متميّزةٌ، حتى بين الطبقة الأولى من الباحثين؛ وذلك بسبب طبيعتها وشمولية رؤياها، وإحاطة إنجازاتها واكتمالها، أكان ذلك لمجهودها المبذول لتعريف القراء الغربيين بالأدب العربي عبر الترجمة، أم للجسور الذي تبنيها بعنادٍ لجعل غنى الثقافة العربية الواسعة مُقدّراً ومُحترَماً من خلال الدراسات الأكاديمية التي يتعاون فيها باحثون متميِّزون في العالم بأسره. إنه هذا الجانبُ الشمولي الذي أودُّ البحث فيه هنا، ليس عن طريق الوصفٍ أو التحليلٍ العاديين، بل من خلال وجهة نظر شخصية لواحدٍ كثيرا ما مُنح فرصة المشاركة بأعمال مشروعها.
أول ما يلفتُ نظري هو الامتدادُ الجغرافيُّ الواسع لمقدرتها. إن للباحث الجامع المانع مساحاتٍ يُعطيها تركيزا واهتماما خاصّين. والدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، لأسباب ذاتِ علاقةٍ بخلفيةٍ شخصيةٍ والتزام سياسي، كانت بصورةٍ طبيعيةٍ ومحقةٍ متحمسةً لتعزيز قضية الأدب والثقافة الفلسطينيين. فهو، بالنسبة إليها، مركزُ ثقل مبرَّرٌ، لا شُغلٌ حصري: مركزٌ ثقلٍ تشع منه معرفةٌ وتفهمٌ عاطفيٌّ للإنجاز في الوطن العربي برمته. أذكر حادثاً طريفاً يوم كنت أُشارك في ترجمة بعض النصوص لكتابها، مقتطفات من القصص العربيّ الحديث (كولُمبيا، 2005)، وكنتُ أنظر إلى شمول كتابها هذا الذي كانت تعده للبلدان العربية الكثيرة، وأشعر بالرهبة والإعجاب أمام ذلك الجمع بين القيمة والجغرافيا. أيقنتُ أنّ هذا، في مجال حقله، كان من الشمول بما يليق بالبحث الأدبي المتميز. بعد ذلك بيومين أو ثلاثة رنّ جرسُ هاتفي. كانت سلمى على الخط. وحين سمعتُ صوتها، علمتُ أنّ شيئا مفرحا قد تحقق. بادرتني فرحةً بالقول، «عندنا الآن قطعةٌ من موريتانيا!» وكنتُ نسيتُ ذلك البلد تحديدا، لكنها لم تنسه. ولا داعي للقول إنه ليس هناك أقلَّ القليل من عنصر التمثيل المُدَّعى. فالقطعة المأخوذة من رواية موسى ولد ابنه، مدينة الرياح، كانت زينة رائعةً في قسم المقتطفات الروائية في المجموعة الكبيرة.
وقد أخذ مجالُ المادة المدروسة شكلا مختلفا في كتابها، إرث إسبانيا المسلمة (بْريل، 1992) الذي نشر بالعربية بعنوان الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، حيث استوعبت سلمى، وحرَّرت، وأشرفت على مشروع هائل ساهم في كتابته مؤلفون عديدون هم خبراءُ عالميون في هذا الحقل، فعالجوا، حسب المخطط الذي وضعته وجاهدت في تحقيقه، جميع جوانب تاريخ إسبانيا المسلمة وثقافتها. وقد زاد كثيرا في صعوبة العمل وقوعُه تحت وطأة موعد صارم: كان لا بد له من الظهور في موعد الذكرى الخمسمئة لسقوط غرناطة (1492)، المعقل المسلم الأخير في إسبانيا. وما كان لمحرِّرٍ عادي بعد أن رتّب لائحةً من الأبحاث إلا أنْ يتركه على حاله ويكتفي بما يحققه في حدود المخطط الأولي. غير أن سلمى، كلما غاصت في الموضوع أكثرَ، كلما جهدت في العثور على مؤلفين ذوي سوية عالية، متحفّزةً لتقديم طيف غنيٍّ من مواد الموضوع لهذا الكتاب الذي يعلم كلٌّ منا اليوم أنه بات معلما ثقافيا.
أما كيف استطاعت أنْ تحتال على الصعوبات، فهو ما لا أعلمه. وإذ أصبح الموعد المُحدّدُ قريبا بما لا يرحم، فلا بد أن العملية كلها أصبحت مصدراً للخوف من معاكسة الظروف.. غير أن سلمى مضت قُدُما في توسيع الكتاب وإغنائه وقد تغلبت المثالية في التحرير على الخوف والتردد. كانت وُجهة نظرها أنّ الجهد والتوتر لوقتٍ قصير سوف يُنسَيان بمرور الوقت، بينما يبقى الكتاب. ولقد كانت بالطبع مُحقة. وهاهو الكتاب يقف شامخاً بكل ما فيه من روعة أكاديمية.
على الجانب الآخر، وجدتُ ذلك الطيف من مواد الموضوع الشاملة مصحوباً بالعناية والدقة الفائقتين في التفاصيل. وهذا التوازنُ هو جانب آخر من إنجازها الشامل. ففي النصوص التي طُلِب مني المشاركةُ في ترجمتها أو تحريرُ أسلوبها، كنت أحتاج إلى استشارتها في النقاط الدقيقة – قد تكون في تفاصيل تاريخية، أو الاسم الصحيح لشخصية مغمورة، أو في واحد من ألف شيء آخر. وغالبا – نعم غالبا – ما كانت معرفتُها الواسعة وقراءاتها الكثيرة تقدم الجواب المباشر. فإن لم يكن، فلا شيء يضيع. ذلك أن جوابها جاهز: «إنه في الكتاب الفلاني. سأجده وآتيكم به.» «أنا ذاهبةٌ إلى مكتبة هارفرد غدا. أعلم أين أبحث.»وغالبا ما تُفضي مثلُ هذه الأبحاث إلى تفاصيل مفيدة يُمكنُ إضافتها. أما نصوص هوامشها التحريرية، التي نادرا ما تكتفي بالمراجع الروتينية، فيُمكنُ أنْ تكونَ مصدراً ثقافيا بذاتها.
بالنسبة إليّ، أرى أنّ أحسن جانب وأبرعه في إحاطتها الشاملة يكمنُ في نقدها الأدبي الشخصي، أو في تعليقاتها على القضايا الثقافية، هذه ذات نوع متميز لم أره في أي مكان آخر، أكان لكاتب عربي أم غربي. فمن جانب، نجد رهافة الفهم والتبصر بالموضوع معززةً بتحليل فيه من الدقة ما كان يغتني به العلم الموروث. ومن جانب آخر، يظل القارئ مدركا لعمق الشعور، وحتى الشغف، الذي يضيء تقييمها للأشياء. وتضيف القيمة الخاصة بهذين العنصرين شيئا جديدا لتأملنا. فتحليلها يتضمن من التفاصيل ما تقتضيه المناسبة – النظر الدقيق، مثلا، لميزات بيت الشعر العربي التقليدي – ولكنه لا يتجاوزُ المهمةَ التي التزم بتوضيحها بطريقة محض نظرية، ولا يحفل مطلقاً بالتصنيف الذي لا هدف له، ولا بالتعبيرات ذات التأثير الزائف. وفيما يتعلق بالشعور، إننا جميعا على دراية كبيرة بالكُتّاب الذين يُطلقون لأنفسهم العِنان بطريقةٍ يُدمَّرُ فيها كل نشاط أدبي معافى بالانغماس في الذات. وهذا ما لا تفعله سلمى على الإطلاق. فبالنسبة إليها، حسبُها الإنسانيةُ الدافئة، والإيمانُ الصادق. والنتيجةُ توازنٌ عميقُ النضج: فلا يجفُّ التحليل أبدا، ولا تُجرَّدُ العاطفةُ من اللياقة. وبالنسبة إلى القراء، يُفضي بهم هذا إلى فهم واضح وغنيٍّ معا، متفكرين بحبها العميق للأدب والثقافة، اللذين أضاءتهما هي نفسها لسنين طوال.
* محرر الأسلوب لكتب المشروعين