عاشت سلمى الخضراء الجيوسي في خضم التحولات العاصفة التي صعد فيها ما بات يصطلح على تسميته اليوم بشكلٍ مستقر ب» الشعر الحديث». ماهو مفهوم مستقر اليوم لم يكن قط مستقراً في فترة التحول الكبرى الواقعة بين أواسط الأربعينيات والستينيات من القرن العشرين، بل كان مضطرباً أشد الاضطراب، ومفصل سجال شعري- ثقافي –نقدي عاصف هو ماتتسم به حيوية الثقافات في مراحل التحول. في فترة الاضطراب هذه أنتجت الحركات الشعرية الجديدة التي تنتمي إلى فضاء» الشعر الحديث»، مقارباتٍ كثيرةً ومتعددةً لأصولها وتطورها ومظاهرها، وأثرت هذه المقاربات مكتبة التاريخ الأدبي بشكل عام ومكتبة تاريخ الشعر بشكل خاص بمجموعةٍ ضخمةٍ من الكتب والدراسات والمقالات شكل كل منها تقريباً في زمنه حدثاً ثقافياً تدور عليه مدى شرعية الشعر الحديث الشعرية. وتشكل هذه النتاجات في مجملها ما يمكن وصفه بتراكم تأسيسي أول لتاريخ الشعر الحديث ونقده ومحاولة بناء نظريته.
مافعلته سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها المرجعي الكبير والأصيل» الاتجاهات والحركات في الشعر العري الحديث» (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001)، والذي يرتكز بدرجةٍ أساسيةٍ إلى أطروحة الدكتوراه التي أنجزتها في أواخر الستينيات حول « اتجاهات وحركات في الشعر العربي المعاصر»( جامعة لندن، مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية، 1970) هو إعادة تأسيس هذا التراكم الذي يقع في أمشاجٍ خليطةٍ من مجالات نظرية الشعر وتاريخه ونقده واجتماعياته ونفسانيته على مفهوم علميٍ لتاريخ الشعر الحديث.
كان هذا المفهوم العلمي لتاريخ الشعر الذي انطلقت منه الجيوسي مرجعياً هو المفهوم الذي تكون وتبلور في التقاليد الأكاديمية ماقبل اجتياح النزعة» العلموية» لنظريات الشعر، والتي كانت في الواقع جزءاً من اجتياح هذه النزعة لكافة حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتي قوّضت بكل بساطة مفهوم التاريخ الذي يحضر بشكل ثانوي، أو في شكل مداخل وإحالات. فلقد كان الأساس المعرفي للعلموية التي اجتاحت مفهوم الأدب معادياً لمفهوم التاريخ. والحقيقة أن» العلموية» هي أقرب ماتكون إلى النقد الأدبي بمعناه الضيق كاشتغالٍ على النص منها، لكنها أسست هذا الاشتغال على نظرية» علمويةٍ» للشعر.
وفي ضوء هذا المفهوم احتل كتابها ومايزال يحتل وسيبقى يحتل لعقود طويلة قادمة مكانةً تأسيسيةً في مجال تاريخ الشعر، فهو ينتمي بكل وضوح إلى حقل أساسي من حقول مفهوم أو «علم الأدب» بالمعنى ماقبل» العلموي»، وهو تاريخ الشعر. فهو يستوعب بشكلٍ أصيلٍ ماسبقه من تراكم، ويعيد تأسيسه في آنٍ واحدٍ في كتابٍ مرجعي ينطلق من جذور الشعر العربي الحديث إلى بواكيره في أحشاء الكلاسيكية الجديدة العربية، والرمانسية والرمزية، مؤرخاً للحلقات والمدارس والمجلات والاتجاهات الشعرية الأساسية، ومتوقفاً عند مفاصلها وشعرائها. وتنجلي فلسفة هذا المفهوم كله في مفهوم الاتجاهات التي تنبثق عن التاريخ بوصفه حركة تتناقض مع السكون.
الحقيقة أن مايفعله مؤرخ التاريخ أو بكلمة أدق (الإستوغرافي)، أو مدون التاريخ الشامل من نوع المؤرخ الذي ينتمي إلى مدرسة» الحوليات» التي مثلت ثورةً منهجية كبرى في علم التاريخ هو على وجه الضبط مافعلته الجيوسي لكن على مستوى تاريخ الشعر في كتابها التأسيسي والمرجعي. وهو مفهوم التاريخ الشامل الذي تنجلي سيروراته اليومية عن اتجاهات كبرى. وهذا هو التاريخ الشامل الذي لايتضح إلا على مستوى الفنرة الطويلة المدى. الجيوسي عينت هذه الاتجاهات على مدى ستة عقود ونيف، وهي سلسلة زمنية طويلة المدى تسمح تماماً بتبين الاتجاهات. لكنها بوصفها مؤرخة أدب عموماً وشعرٍ خصوصاً فإنها نمذجت أبرز التغيرات التي طرأت على الشعر بوصفه جنساً أدبياً أو» فناً». هل يضطلع المؤرخ بعمل الناقد؟ نعم ولا، فالمؤرخ ليس ناقداً في المحصلة، ولكنه في المحصلة يضع في منهجيته كل الخبرات الكلية للناقد، لأنه يستهدف بناء نماذج. وبحسها المرهف للتاريخ كسيرورة مفتوحة قامت الجيوسي بأمثلة هذه النماذج في شكل اتجاهات، وهو شيء مجانس لطبيعتها، ولطبيعة الشعر الحديث بوصفه ظاهرة اتجاهات تعبر عن جوهر التاريخ وهو الحركة والتغير والصيرورة.
إن مؤرخ الأدب في ضوء المفهوم العلمي الذي انطلقت منه الجيوسي مرجعياً يهتم باجتماعباته ونفسانياته وبيوغرافياته، لكن اهتمامه الأساسي ينصب على تاريخ الشعر نفسه، وهو تاريخ أشكاله بالمعنى العلمي «المرن» للشكل وليس بالمعنى العلموي» الصلب». فمؤرخ الأدب يعرف جيدأص وبشكلٍ منهجيِ لازبٍ أن الأدب شيء غير المجتمع والسياسة والأفكار والعقد النفسية الت ي يحفل بها علم النفس، لأنه ينطوي على عنصر التخييل. لقد أسست الجيوسي كتاباً مرجعياً في مجال» الإستوغرافيا» الشعرية، يهتم بتلك الظلال والخلفيات بماهي من صلب واجبات المؤرخ، لكنها تركز على الشعر نفسه، بأفكاره ومفاهيمه عن نفسه على مستوى مايثيره النص أو مايستدعيه أو ماينتجه، ومصادر ذلك، وكيفية تأثير هذه المصادر، وتحولها إلى مفاهيم أخرى. وكيف يبرز النص نفسه اتجاهات جديدة تتجاوز حدود تلك المفاهيم.
ويطرح السؤال التالي نفسه هنا على مستوى العلاقة بين» العلموية» ومفهوم تاريخ الشعر بالمعنى الذي مارسته الجيوسي: هل هناك في عمل الجيوسي مايتناقض مع الخلاصات الجوهرية للعلموية الشعرية؟ ليست هناك فجوات كبيرة، لكن المنهجين مختلفان جذرياً، فالعلموية أقرب إلى النص بينما مشاغل المؤرخ تستوعب ذلك في مدى أشمل وأوسع رحابةً. ومايسميه العلموي لاحقاً بالتناص يستوعيه مؤرخ الأدب في وصف ماتسميه الجيوسي ب» الأساليب المواربة» من أسطورةٍ شعبيةٍ ورموز وتضمين. وفي ذلك كانت الجيوسي وفيةً لذلك التجسير بين المفاهيم العربية الكلاسيكية التي ماتزال تتسم بقوتها وبين الاقتراب المبكر من المفاهيم الحديثة.
لكن في المحصلة كيف يكتب تاريخ الأدب؟ إنه لايكتب جوهرياً بغير الطريقة التي كتبت فيها الجيوسي تاريخ الشعر الحديث في جذوره واتجاهاته وحركاته وظواهره الشكلية والإيقاعية واللغوية. من أين حصلت الجيوسي على هذه المقدرة؟ ممالاشك فيه أن التدريب العلمي المنهجي والأكاديمي بمعنييه المرن والصلب تحكم بذلك، لكن الجيوسي كانت شاعرةً، ونشرت لها المجلات الطليعية الأبرز في أواخر الخمسينيات والستينيات مثل» شعر» و»الآداب». وكانت تعرف بشكلٍ مباشرٍ مايدور في النص وحوله وتحته. وهي في كتابتها المرجعية والتأسيسية في الحقيقة لتاريخ الشعر الحديث أشبه بالشرط الذي لابد أن يتوفر في الأنتروبولوجي وهو معايشة الجماعة التي يبحثها أنتروبولوجياً ميدانياً. كانت الجيوسي تعيش هذا التاريخ ميدانياً. ولقد أعطى ذلك كتابها قوةً من ناحية القرب، كما إن منهجيتها العلمية الصارمة مكنتها برهافة من أن تنتج رؤى خارج الانغماسات اليومية في الميدان اليومي لهذه التحولات. حولت الجيوسي معايشتها الميدانية للتحولات ولأشخاصها ونصوصها إلى مستوى علمي في مقارية تاريخ الشعر. أتساءل وأنا الذي لابد لي أن أعود إلى كتابها دوماًَ: هل يمكن أن نعرف تاريخ الشعر العربي الحديث قبل كتاب الجيوسي بالقدر الذي عرفناه بعده؟ هنا تأسيسية الكتاب، وهي تأسسيسة تترقب من يتابع هذا المسار، ويوفر للثقافة العربية الحية مؤرخين كباراً بمستوى علمية ورهافة وخبرة وجهد السيدة الجيوسي.