«إنّ من تابع شعر سلمى في تطوّره يمكنه أن يتصوّر القمم التي تنتظرها. فسلمى تتمتّع بشاعريّة أصيلة تغذيها ثقافة واسعة وحياة غنيّة. أمّا مكانة شعرها اليوم في النهضة الشعريّة في العالم العربي، فيقيني بأنّها في طليعة الذين يقفون عند نقطة التحوّل في الشعر العربي، ويؤدّون دوراً هامّاً في هذا التحوّل» خالدة سعيد، فصول في نقد الشعر الحديث/ البحث عن الجذور دار مجلّة شعر بيروت 1960 ص.120
في منتصف الستينات من القرن الماضي، وأنا تلميذ بالمعهد الثانوي بالقيروان، أهداني أستاذي الراحل الأديب محمد الحليوي صديق أبي القاسم الشابي، عدداً من مجلّة «شعر» تحيّة منه لعرض كنت قدّمته عن شعراء المهجر، وعن إيليا أبي ماضي تحديداً؛ وكنت لا أعدل به شاعراً في تلك الفترة. هذا العدد (الواحد والعشرون السنة السادسة شتاء1962) ذو الأوراق الصفر الباهتة ولا أدري أمردُّ صفرتها إلى الزمن أم إلى اللون نفسه ماهية لا صفة ما أزال أحتفظ به في مكتبتي الصغيرة، وقد تمزّقت صفحاته الأولى؛ من صفحة الغلاف إلى الصفحة الثامنة. هو يبدأ إذن من الصفحة التاسعة: سلمى الخضراء الجيوسي: قصيدتان. والقصيدتان هما: «حوار داخلي» و»ما وراء الحدود». عام 1965 وأنا أراهق الخمسة عشر عاما دخل هذا الاسم العلم، لأوّل مرّة، ذاكرتي حيث شغل ركنا منها ولا يزال. وقد تعرّفت إلى أستاذتنا سلمى بعد ذلك بعشرين سنة أو أقلّ بقليل، وهي تزور تونس، ثمّ لقيتها أكثر من مرّة سواء في تونس أو في الأردن، أوفي جامعة لوند بالسويد عام 1984 حيث شاركتنا هي وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي وعبداللطيف اللعبي ومحمد الغزي وآخرين الملتقى الأوّل للشعر العربي السويدي، أو في طنجة بالمغرب. ودعتني غير مرّة إلى المشاركة في منشورات «بروتا» مشروعها المترامي الغلاّب الذي لا أعرف له شبيها في البلاد العربية أو حتى عند المهجريّين من العرب. ولقد فعلت عن طيب خاطر، فكتبت لها عن «حقوق الجسد في ثقافة الإسلام» و»قصص الحب عند العرب» و»الشعر التونسي في النصف الأول من القرن العشرين»، وكانت هي في منتهى الصرامة كلّما تعلّق الأمر بناحية علميّة في البحث لم تُوطّأ أو لم تُوثّق كما ينبغي أو لم تجئ بالنتيجة المبتغاة. ولا أخفي أنّي تعلّمت الكثير منها وأهمّه الصبر على مرارة البحث وقسوته، كما تعلّمت من أعمالها مثل رسالتها الجامعيّة التي هي مرجع لا غنى عنه لمن رام معرفة «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» و»موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر»، وكتاب لويز بوغان «إنجازات الشعر الأمريكي في نصف قرن» وكتاب آرشيبالد ماكليش «الشعر والتجربة»، والجزأين الأولين من رباعيّة الإسكندرية للورنس داريل «جوستين» و»بالتازار» وما إلى ذلك مّما لا تتّسع له هذه الورقة.
هذه الناقدة والباحثة الفلسطينيّة المرموقة التي تنتمي إلى جيل الرّوّاد (السّيّاب - نزار قبّاني - نازك الملائكة - أدونيس - توفيق صايغ - البيّاتي - سعدي يوسف - عبد الصّبور - حجازي) طلّقت الشّعر منذ أكثر من عقدين، واستقرّت ببوسطن في أميركا، وتفرّغت منذ عام1980 لترجمة الأدب العربي فأسّست مشروع «بروتا» لنقل ثقافة العرب وجانب من حضارتهم إلى العالم الأنجلوسكسوني، ظللت أحتفظ لها في ذاكرتي بصورة الشاعرة، لا بسبب تلك الذكرى التي سقتها منذ قليل فحسب أو لأنّها تعرّفت إليّ شاعرا لا باحثا؛ وذلك في كتابي الشعري الأوّل «ألواح» الصادر عام1982، وقد روت لي في رسالة خاصّة كيف أنها عادت من تونس بمجاميع لشعراء تونسيّين كثيرين، ثمّ تفرّغت لقراءتها في بيتها في بوسطن، دون أن تجد ضالتها من شعر يمكن أن يُترجم إلى الإنجليزيّة. وبقي كتابي الشعري الصغير فوق طاولتها، فهمّت بإلقائه وإلحاقه بأشباهه ونظائره، لما وقع في ظنّها من أنّه مثلها قد لا يعدو أكثر من «مسطّح عاكس» يقع عليه ما يقع من بائد العوالم، وينجرف إليه ما ينجرف من أضواء الماضي الشعري وظلاله، وقد أخذ منها التعب؛ ثمّ تردّدت وهمّت به لتظفر فيه ببعض ضالّتها ممّا ترجمته لي في موسوعة الشعر العربي المعاصر. إنّما أحتفظ لأستاذتنا سلمى بصورة الشاعرة، لأنّها شاعرة حقّا.
أقول هذا رغم إدراكي أنّ مفهوما كلّيا للشّعر هو حكم تأليفيّ بعديّ لا يعدو أن يكون غير ظلّ لبعض القصائد. وشأنه شأن الظلّ يرسم تقاليب الضّوء، ولا يستقر على حال، ولا يلبث ألبتّة في نفس المكان، وإنّما هو في تحوّل أبدا، بل يَغيض في العتمة كلّما غابت الشّمس وجاء اللّيل. كذلك مفهوم الشّعر يغيض أحيانا كثيرة في عتمة القصائد.
إنّ « الشّعر» - إذا استخدمنا عبارة مجازيّة - يبدأ من منتهى القصيدة، ويكون في عقبها أو طرفها. فلا مناص من الإقرار بأنّ القصيدة هي التي تصنع الشّعر حدّا أو مفهوما لا يثبت على حال، وليس الشّعر هو الذي يصنع القصيدة أو بأنّ القصيدة هي التي تستدعي أبدا تعريف الشّعر، هذا الفنّ الذي «يُعرف» ولا «يُعرّف».
تتزيّا هذه القصائد -على قلّتها- سواء في «العودة من النبع الحالم» أو ما كُتب بعد هذا الديوان، بذاتها وتستصحبها وهي تجوس في أدغال ذكرى ما وتستأنس بها. لكأنّها وشم على باقي وشم، أو كتابة على مطموس كتابة. طرس يُمحى ويُكتب فيحيي وشما كاد يعفى وكتابة كادت تبلى.
أعبرنا الحدود؟
قد عبرنا. أيعلم عشاقنا
كم صلاة تلونا? وكيف استطالت إلى الضوء أشواقُنا؟
كم هدمنا على دربنا من سدود؟
نحن جُزنا الحدود إلى عالم
لا ينام به العاشقون
وعبرنا السياجات من نبعنا الحالم
حيث كان هوانا الرضا والسكون
ودخلنا إلى منبع النار،
ماتت براءة أحلامنا
واستبدَّ بنا الساهرون...
إنّها قيافةٌ فضاؤها الذات. تترسم الدارس فتستجلي البقايا وتستجمع الأنقاض، وتفلي النفس عن صور وكلمات وتحرّك الوهم والخيال في استنساخها واستحضار ما غاب منها وحضر من خافت أجراسها ورجيع أصدائها حتّى إذا همّت بها الذات الشاعرة تخفّت الصورة وانسربت بين حروف وفوارز وعلامات استفهام وتعجّب وهي تشعّ بنور يتمدّد ليغمر زوايا في الذاكرة محتجبة معتّمة. تجلّي هذه القصائد «حرَفيّة» عالية في إدارة فنّ القول وهي تتبع نسقها بنية ونظاما وتَحْرِفُهُ جملةً وصورةً كما في قصيدتها «حوار داخلي» التي تؤدّيها الشاعرة بواسطة أسلوب «الالتفات» كما يسمّيه العرب، أو «لعبة الضمائر» بعبارة المعاصرين؛ فتعدل من خطاب:
- وحذّرتها، آه حذّرتها، قلت جاعوا فكان المطرْ
وقد حصدوا بالمجاعة شوكَ الطريق...
إلى تكلّم:
- أنا اخترت أنشوطتي وحملتُ ضميري إلى المحرقهْ
وأكذوبة للرياح رويتُ
أتتني العصافيرُ تروي حكايايَ للزنبقهْ
ولمّا رأيتُ الجناحَ بكيتُ...
بحيث تَبْدَهُنا ذات الثّنائيّة: «أبولونيّة» من جهة و»ديونيزوسيّة» من أخرى. الأولى تحدّ نظام القصيدة وتضبطه، والثّانية تطلق الصّورة في فضاء المتخيّل وترسلها: «تعذّبتُ لكن أكلتُ عيوني...» أو» ولكن بنيتُ على جذوتي مرفأ...» أو»عصير الزنبق الأسود في العينين والشعر/ وشمس الهند قد تركت على الخدّين/ ألوف القبل الولهى، ومسّت رجفة الشفتين/ بأحرق ما يصبّ الشوق في غمّازة الثغر...» أو في قصيدتها» حزيران1967: «قطع الصيف الماضي آخر عرق من قلبي/ أسمعت بأخبار وفاتي؟/... ليت التابوت يذوب كقلبي، يتلاشى كالأحلام النضرة/ أسمعت بموتي؟ ذاك الكأس العقرب... مجلّة الحركة الشعريّة مارس2004 ص78؛ وكأنّ حرْص الشاعرة على أن تُفهم، حيث ينهل الدّالّ من مدلول لا ينضب أو ما تسمّيه أستاذتنا في رسالة إلى توفيق صايغ بتاريخ 1-10-1958: «البساطة العميقة المنبثقة من أغوار النفس الذكيّة» محمود شريح، توفيق صايغ: سيرة شاعر ومنفى رياض الريس للكتب والنشر 1989 ص262، يعادله حرْص خفيّ على أن لا تُفهم؛ أو أنّ مناهضتها لانسياح الشّكل يعادلها مناهضتها لتقييد الصّورة. والحقّ أنّ «الفهم» قد لا يكون ضروريّا، من منظور جماليّ خالص. ذلك أنّ الشّعريّة الحديثة مقارنة بالشّعريّة الأقدم، تقدّم «الانفعال» بالنصّ على الفهم.
إنّ اعتراض كثير أو قليل على أنّ هذا الشّعر بعيد المأخذ، اعتراض غير وجيه؛ إذ يغفل هؤلاء أنّه لا وجود في الشّعر العربيّ الحديث لمفهوم «القارئ». وكلّ ما في الأمر أنّ هذا الشّعر يتخيّر «قرّاءَهُ» أو ربّما كان من مقاصد أصحابه أن لا يتواصلوا مع أيّ كان. ومن ثمّ يرسم حدّا لصنف آخر من قرّاء الشّعر. والحدّ يصل على قدْر ما يفصل. إنّ طلب الفهم، أو البحث عن معنى، يفترض في الصّورة أن تؤدّيه، يحصر الأثر أو المفعول الشّعريّ في وظيفة بعينها هي زخرفة «واقع» معطى وتزيينه، واقع تُضاف إليه «تجربة شخصيّة معيشة» تتعلّق بما هو «خياليّ» أو «متخيّل «. وسواء كان ذلك بإلمامة خاطفة وبراعة بهلوان، أو بقوّة واختلاق وتكلّف، فإنّ الصّورة في هذا النّوع من المقتربات ليست إلاّ كلاماً يلوي بكلام، ويخالف به عن جهته ومألوف استعماله.
كان لا بدّ إذن أن أسلك إلى هذه النّصوص من باب خلفيّ؛ كما أفعل عادة: أن أمسك بالخيط الذي ينتظمها. ولكنّه لم يكن أكثر من خيط العنكبوت نسّاجة النّجوم. بل لعلّي لم أمسك إلاّ بشكل تواريها. ومن ثمّ كان عليّ أن أتنسّم ضوءها الدّاخلي أو ما كان يتهيّأ لي أنّه ضوء: أعني الوعي الجمالي بالحاضر. غير أنّي لا أستخدم هذا المفهوم البودليري، بمعناه الحرفي، وإنّما أضيف إليه «الإيقاع» من حيث هو الحضور نفسه. بل أضيف إليه الصّورة المركّبة أو ما يسمّيه المعاصرون «الاستعارة المجدولة» التي يسلسل بعضها بعضا.
ونقدّر أنّ الصّورة في هذا الشعر صيرورة وسيرورة. أمّا القول إنّها صيرورة فليس المقصود منه أن يبلغ الشّاعر بالصّورة شكلاً من التّماثل أو المحاكاة وإنّما العثور على منطقة تتجاور فيها الأشياء أو يتلبّس بعضها ببعض. وأمّا القول إن الصّورة سيرورة، فالمقصود أنّها على غرابتها محطّ في محاطّ الشّعر العربي الحديث وليست انقطاعاً في سيرورته، فمثلما لا تتجلّى الأبديّة إلاّ ضمن الصّيرورة -بعبارة أهل الفلسفة- ولا يتبدّى مشهد طبيعيّ، إلاّ ضمن الحركة، فإنّ هذا المحدث لا يتجلّى إلاّ في علاقة بالشّعر الأقدم منه، حتّى أنّنا نكاد نفتقد المحدث إذا افتقدنا القديم. فهو أشبه ما يكون ب»النّبتة في البذرة».
على أنّ ما يميّز هذا الشعر حيث تحضر الذات حضوراً مكثّفا، إنّما سياقه الذي يفضي بها إلى أفق الكونيّة. وربما وجب أن نشير - لاجتناب أيّ لبس - إلى أنّنا لا ندرج هذا التأويل ضمن السياق الرومنطيقي، بمعنى أنّه يتعيّن اجتناب المغالطة التي يمكن أن يقود إليها استعمال مقولة الذات، فنتصوّر أنّنا إزاء تجربة شعريّة تنخرط ضمن الأفق الرومنطيقي بوصفه معقوداً على حضور مكثّف للذاتيّة. ولعلّ هذا ما تنبّهت إليه الناقدة خالدة سعيد. تقول: «ولا بدّ من الاعتراف بأنّ الصوت الذاتي ما يزال مسموعاً في المجموعة، ولئن ارتفع حديثا صوتها الإنساني والكوني فإنّ في ثناياه نواحَ قيثار هارب لحق بها من أجواء «النبع الحالم». وهذا سرّ المسحة الغنائيّة الشجيّة التي نحسّها في شعرها الحديث.» البحث عن الجذور دار مجلّة شعر، بيروت 1960 ص114
والذات الرومنطيقيّة إنّما هي ذات انفعاليّة، ولذلك يمكن اعتبار الأدب الرومنطيقي أقرب إلى معنى الديانة (هذا رأي نجازف به ولا ندّعي له الوجاهة حتّى نختبره)، في حين أنّ الذات في فضاء الشعر الذي نحن به وربّما في شعر سلمى المنشور لاحقا أي بعد صدور ديوانها الأوّل كما هو الشأن في القصيدتين اللتين تمثّلنا بهما، إنّما هو حضور ذات إدراكيّة مذوّبة في خطاب شعريّ أو هي متمثّلة على نحو جماليّ، حتّى لا ينحرف الفهم إلى اعتبار الخطاب الشعري مجرّد قناع لمضمون معرفيّ، أو فلنكنِّ عن حضور المعرفة شعريّا بالنّسغ الطريّ الذي يملأ شرايين القصيدة. وقد أشرنا في دراسة لنا إلى أنّنا نستعمل مقولة «الكونيّة» ضدّ مقولة «العولمة». فالأولى في تقديرنا أفق محمود يجدر بالإنسان أن ينخرط فيه، والكونيّة قيمة إنسانيّة تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه؛ لأنّها لا تلغي الاختلاف والتعدّد بل تسعى إلى إدماجهما في سياق من التناغم. تقول خالدة سعيد عن الشاعرة، في سياق قريب مّما نحن به: «ولكي تحسن التعبير عن يقظتها الشعريّة هذه أفادت من تجارب الغرب الفنّية التي بلغت حدّا بعيدا من الرّقي. لقد صرّحت سلمى في مقال لها في مجلّة الآداب أنّها تعتبر نفسها وريثة الحضارة الإنسانيّة إن هي تمكّنت من تمثّلها؛ وها هي وقد عرفت كيف تستفيد من التجارب الفنّية وتبقى في إطارها القومي.» البحث عن الجذور دار مجلّة شعر، بيروت 1960 ص114. ومن دلائل هذا المنحى أنّ الشاعرة فعلت فعل إليوت إذ ضمّنت بعض قصائدها أبياتا لشعراء آخرين أو أزجالا شعبيّة أو مقاطع من أغنيات أو مراثي شعبيّة ساعدت في خلق جوّ خاصّ بعبارة الناقدة. فهذا وغيره مثل الاحتفاء ب»الأشياء الصغيرة المهملة التي عاشت دائماً على هامش الشعر» ممّا يلامس في تقديرنا أفق الكونيّة المتنوّع؛ فيما العولمة، على نحو ما يصرّفها أهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها وأفنت مصائرها من أجل إغناء تنوّعها وتطوير اختلافها، وخلافها أيضاً. وهو ما ينبغي التصدّي له، ولكن ليس ضمن فضاء العولمة بل ضمن فضاء الكونيّة الذي لا يحوّل الاختلاف إلى خلاف وإنّما يجعله شرط إمكان الحوار. وباختصار، مخلّ لا ريب، فإنّ الكونيّة في هذا الشعر الذي انقطعت عنه أستاذتنا، أو في الأدب العربي الذي تخيّرت «بروتا» ترجمته إلى الإنجليزيّة، أفق وجود؛ فيما العالميّة استيطان مقنّع في أرض الآخر.
تونس