في 29 مايو - أيار الماضي حملت صفحة الجريدة الأولى خبرا بأن جمعية إرهابية جديدة قد خططت للهجوم هذا الصيف على بعض الأقليات في إنجلترا. ثم قرأت داخل الجريدة عن مذبحة المصلين في جامعين في لاهور. بعد ذلك يجيئني صديق مصري فأرى وراء الابتسامات علامات القلق حول نوع جديد من اللاتسامح رآه عندما زار بلده حديثا. ولأني ألماني فأنا أعرف جيدا كيف يمكن لمجتمع بأكمله ان يُرزأ بعقلية جماعية منحرفة وكيف يمكن لهذا ان يصبح خطرا مميتا. وإذ أرى إشاراته المعروفة تبرز في أماكن كثيرة فإن النفس تمتلئ بالقلق والتشاؤم. هذا هو ظل العولمة المعتم.
ولكن هذااليوم هو أيضا اليوم الذي لفتت نظري فيه قصيدة جديدة لسلمى الخضراء الجيوسي تتحدث عن غريبين لا يمتد لقاؤهما أكثر من ساعة ولكنها ساعة تمحو ظلام عمر من التحكم العقيم. فالقصيدة تحملني هنا على درب تعاكس ذلك الأفق المعتم الذي حملته أخبار الصباح الكئيبة وإذا بها تتخذ دور رسالة ملحة تطالبنا بأن نتلفتّ وننظر حولنا ثم نفعل شيئا. ما تريدنا القصيدة أن نراه وأن نفعله يكمن في الأبيات التالية:
أنظروا أنظروا الغريبان يحتميان
من وحشة العمر في حوار حميم
وأطيلوا جناح الأصيل.... فالليل عنديَ لا يعرف الأنس
مدوا حبال النعيم
ساعة من زمانٍ
ما تطالبنا القصيدة به هو أن نتعلم من تجربة ساعة واحدة من الصفاء البهيج التي جمعت إنسانين معا - دون أي اعتبار لأصولهما العرقية او الدينية أو القومية أو الطبقية. إنهما غريبان بلا اسم وما جمعهما ومنحهما ملجأ من «وحشة العمر» ليس إلا هذا الحوار: إنها كلمة يدل معناها الحرفي على تجاوب الواحد مع الآخر. إن اللهجة الملحة هنا تستمر إذ ترجونا القصيدة أن نمد أجنحة الأصيل حتى نمنع وصول الظلام حيث يختفي الدفء والتقارب والتعاطف والإنسانية. ثم تطلب منا القصيدة بإلحاح أن نمدَّ «حبال النعيم» ولو لمدة ساعة واحدة.
لا يمكنني أن أرى في هذه السطور إلا إرهاصا متشائما بليل العدوان الوحشي الذي يبدو اليوم جاثما على أماكن كثيرة. وأية حبال تلك التي تجلب الهناء بامتدادها؟ أليست هي الحبال التي تتضافر عن طريق الحوار؟ عن طريق إعطاء الأجوبة الواحد للآخر، بالإصغاء إلى الآخر. إنه حوار يصدر عنه هدف مشترك يولد من معرفة الإنسان بأصوله المشتركة ومصيره المشترك.
وإذ أتأمل هذه السطور أدرك أن هذا الحوار هو نفسه الذي نذرت له سلمى الخضراء الجيوسي حياتها جميعها كشاعرة وناقدة وباحثة أكاديمية، بنشاط وإصرار فائقين. فهي، بافتتاحها مشروع ترجمة عدد كبير من الأعمال الأدبية العربية، وبإعدادها مجموعاتها الشهيرة للشعر والنثر العربيين وضعت القاريء الغربي وجها لوجه مع الثروة الإبداعية التي أنجزها مبدعومنطقة من العالم طالما شُوه إبداعها أو أسيء فهمه. إلا أنها لم يكن همها الوعظ أو الاعتداد بهذا بل كان هدفها فتح مغاليق الأبواب وتقديم عالم ثقافتها الداخلي إلى العالم في الخارج أي كانت مهمتها بناء الجسور وبكلمات أخرى «مد حبال الأنس» وهي تأمل أن تؤسس تفاهما واحتراما متبادلين. هذه الروح المنفتحة، وهذا البحث عن التبادل المثمر للأفكار يظهر واضحا لمن يقرأ مقدماتها التي كتبتها لمجموعاتها المترجمة. والحق هو أن ولاءها العميق لثقافتها لم يمنعها قط من أن تصغي بتعاطف كبير إلى ما يود الآخرون قوله. في إحدى دراساتها قالت إن «محبي الشعر الحقيقيين لا يمكنهم إلا أن يروا الجمال الكامن في جميع الأشكال الشعرية الأخرى؛ فهم متعددو الذائقة، واسعو التقبّل، منفتحون على كل كلام جميل، يأسرهم كل قول شعري فائق في أية لغة وفي أي شكل.»
وبصفتي أستاذا للعربية في جامعة لندن (مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية) شاهدت بشكل مباشر أهمية العمل الذي قامت به وقوة تأثيره. فمنذ سنوات عديدة أصبحت كتبهاومجموعاتها مقررة ضمن قائمة القراءة في جامعتنا وبرهنت على أنها أساسية في فتح أعين أجيال متعاقبة من الطلاب على ثروة الأدب العربي. ولابد أن يبرز اسمها في كل حلقة للدراسة وفي كل محاضرة.عند افتتاح اجتماع عقد حديثا للباحثين والطلاب حول اسبانيا المسلمة بدأ المتكلم الرئيسي محاضرته الافتتاحية بقراءة مقتبس من مقدمة سلمى لكتابها الكبير عن إرث الأندلس الثقافي الذي قدّم عبر دراساته الخمسين أشمل بحث عن الموضوع حتى يومنا هذا. بعد ذلك بوقت قصير بدأتُ أنا محاضرة عن الشعر العربي الكلاسيكي بتوجيه الطلاب إلى ما كتبته سلمى حول استمرارية شكل القصيدة العربية القديمة في محاضرتها التي افتتحَتْ بها مؤتمرنا سنة 1994 عن تاريخ الشعر العربي وتأثيره على العالم الإسلامي وخارجه. ولا يمضي أسبوع واحد دون أن يُذكربشكل أو آخر شيئ كتبته أو نشرته.
وفي وجه الترجمات الكثيرة والمجموعات والدراسات الأكاديمية التي كتبتها أو حررتها فإن أعمالها الشعرية تبوء أحيانا بالنسيان. إلا أن هذا لم يحدث هذا العام في مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية لأن شعرها قد أُعطيَ مكان الشرف في درس الأدب الفلسطيني الحديث الذي قام بتدريسه زميل مرموق هو نفسه شاعر فلسطيني مبدع. ومن بين قصائد سلمى اختار تدريس قصيدة وصفها بأنها لحظة مركزية في تاريخ الأدب العربي الحديث. إنها قصيدة كتبتها سلمى منذ بضعة عقود تحمل عنوان «السفينة العاشقة» ومن الواضح أن القصيدة وُلدت نتيجة لكرم الروح المتوهج الذي حملته الأبيات الأخرى المذكورة أعلاه، على ان موضوعه لا يتحدث عن لقاء غريبين بل عن لقاء حبيبين. إلا أن عاطفة حارقة تجمع بينهما وتكسر جميع الحواجز. إن الحب في هذه القصيدة ليس حبا أنانيا خبيئا يخدم الذات، ففي أعماق وجوده تكمن رسالة تحرر وخلاص تخاطب الآخرين، وتحيط القصيدة بقوة وشمولية أشبه بشمولية بيتهوفن وقوته. إن صوت سلمى هو صوت واحدة من أولئك الإنسانويين الكبار في زمننا يقول لنا: humanists
نادوا لي الأشقياءْ
من أحبوا وخابوا، ومن أورقوا في الجحيمْ
لأحدّثهم عن ذرانا،
وكيف ورثنا النعيم
وكيف وجدنا المنارةَ
نادوا ليَ التائهينْ
أستاذ العربية في مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية، جامعة لندن، ورئيس قسم اللغة العربية