عندما يكون موضوع الحديث منصباً على سلمى خضراء الجيوسي، فهذا يعني أن تشعباً لا حدَّ له سيكون ضرورياً من أجل الإحاطة بجهود شخصية فذَّة مثل شخصية سلمى.
وللتشعب ما يسوِّغه، فهي كاتبة وشاعرة وناقدة ومترجمة، وفوق هذا كله، وربما قبل هذا كله أيضاً، هي من أكفأ الشخصيات العربية المعاصرة في التخطيط للمشاريع الثقافية الكبرى، وفي إدارتها، على أحسن وجه ممكن.
ومع ذلك فإن أحداً لا يضارع سلمى في تواضعها، ولا يكافئها في جديتها، وفي مقدرتها على العمل الموصول لساعات وأيام وشهور وسنوات، مُكِبَّة على مشروع واحد لا تجعله يرى النور إلا إذا اقتنع عقلها، واستراح ضميرها إلى أنها قد استفرغت غاية الوسع في العمل، على كل ما من شأنه أن يجعل هذا المشروع يستحق أن يسجل في قائمة المشاريع العظيمة التي تليق بمثقف عظيم ينتمي إلى ثقافة كانت عظيمة في يوم من الأيام، مع إيمان عميق بضرورة العمل، لا على بعث هذه الثقافة واستعادتها فحسب، وإنما أيضاًً على حشد كل الجهود والطاقات من أجل الانخراط في العصر، وإنتاج ثقافة عربية جديدة تقدِّس الحاضر والمستقبل، من غير أن تتنكر للماضي.
ولعل ما أنتجته سلمى من شعرٍ، وما كتبته من نقدٍ -فضلاً عن أوجه الرعاية المختلفة التي كثيراً ما أحاطت بها بعض الشعراء الذين أصبحوا مرموقين فيما بعد- شاهد آخر على القيمة العظمى لإسهاماتها في الثقافة العربية المعاصرة. ذلك أن رعايتها لشعر الحداثة ولبعض شعرائه (بالمعنى الدقيق لكلمة الحداثة)_ أي الشعر الذي تنعكس فيه آثار المدنية الحديثة وليس مجرد الخروج على القافية والوزن، بالإضافة إلى ما أنتجته هي شخصياً من شعر يتَّصف بالحداثة_ يكشف عن عنصر التمرد في شخصها، هذا التمرد الذي لم تقف حدوده عند النقد والشعر، بل هو قد أصبح الطابع المميز لشخصية سلمى الفذَّة والمبدعة.
إن سلمى لا تكره الماضي، ولكنها على كل حال لا تقدِّسه، وهي وإن كانت تنظر إلى الحاضر على أنه نقطة الانطلاق في كل شيء، فهي مع ذلك - بحكم تمرُّدها وثورتها على كل الأطر الجاهزة والمفاهيم الموروثة والقيم الرائجة- قد جعلت من المستقبل أفقاً منفتحاً انفتاحاً لا حدَّ له واتخذت منه مقرَّاً لها تقيم فيه، الأمر الذي منحها حيوية الشباب ونضارة العقل وحماسة الصوفي وعشق المحب.
وعلى الرغم من كل ما قيل سابقاً، فسيظل الحديث عن سلمى ناقصاً ما لم نلمح، ولو بكلمات، إلى واحد من أكبر المشاريع الثقافية التي ابتكرتها سلمى وخططت لها ومنحتها جانباً كبيراً من حياتها، ونعني بذلك المشروع الشهير باسم (بروتا). ولعل عظمة هذا المشروع آتية، أولاً وقبل كل شيء، من أنه مشروع مفتوح وليس محدداً بعدد من الكتب أو الإنجازات ينتهي بانتهائها أو بصدورها.
وإلى جانب مشروع بروتا الذي خصصته سلمى للترجمة فقد أسست سنة 1992 مشروع رابطة الشرق والغرب للدراسات الحضارية ويمكننا وصف المشروعين بأنهما دائرة معارف كبرى مؤلفة من مجموعة ضخمة من الكتب والأبحاث والمقالات التي جُمِعت جمعاً مناسباً، بحسب الموضوع والهدف، وكتبت أو تُرجِمت بإشرافها على يد أحسن الباحثين المختصين أو المترجمين، من العرب والأوربيين والأمريكيين. المشروعان إذاً، هما موسوعة ثقافية ضخمة أتقنت سلمى انتقاء مادتها، لأن المستهدف من هذا المشروع، هو تعريف الغرب والعالم مجدداً بأسس الحضارة العربية وبأهم الإنجازات التي حققتها الثقافة العربية قديماً وراهناً. وعندما يتم اختيار مثل هذه المادة بيد خبيرة، فالنتيجة المترتبة على ذلك لا بدَّ أن تكون عملاً مؤثِّراً موجَّهاً إلى النخبة الغربية والعالمية من سياسيين وأكاديميين وإعلاميين وعلماء وصناع قرار، ليتمكن المنصف منهم من الحكم على الحضارة العربية، انطلاقاً من معطيات هذه الحضارة نفسها، بدلاً من الانطلاق من مجموعة من الأحكام المسبقة المتحيزة لأسباب سياسية أو دينية أو غير ذلك.
ولو لم تنجز سلمى في حياتها إلا ما أنجزته من هذين المشروعين، لكفاها فخراً بما قدمته من خدمة جليلة للثقافة العربية في المحافل العالمية، مما جعل سلمى، في كثير من الأحيان، شخصية معروفة لدى كبار المثقفين الغربيين بأكثر مما يعرفها الناشئة من المثقفين العرب.
ومن غير الجائز أن نختتم هذه العجالة عن جهود سلمى، من دون الإشارة إلى جهد ثقافي آخر اضطلعت به سلمى في المحافل الغربية. والأمر هذه المرة متعلِّق بفلسطين، بصفة عامة، وبالقدس، بصفة خاصة. فلقد خصَّصت من جهدها ووقتها زمناً للدفاع عن عروبة القدس، بطابعها الإسلامي والمسيحي. وفي سبيل تأكيد ذلك، أشرفت على نقل مادة تاريخية وأدبية ودينية وعلمية عن القدس، إلى اللغة الإنكليزية، لتكون في متناول المثقفين الغربيين والساسة المهتمين بشؤون المنطقة العربية بعامة، وبالقضية الفلسطينية بخاصة.
ونظراً لما يتمتع به مشروعا (بروتا) و(رابطة الشرق والغرب) من أهمية، بالإضافة إلى جهودها الموصولة في الدفاع عن مدينة القدس وعروبتها، فإنني أوجه نظر الساسة العرب وصناع القرار وخاصة وزراء الثقافة العرب، بالإضافة إلى المؤسسات الثقافية العربية الكبرى العاملة على رعاية الثقافة العربية وتنميتها والدفاع عنها، أوجه نظرها جميعها لمشاريع سلمى وأدعوها للتعاون معها لكي يستمر العمل فيها، من خلال إصدار المزيد من المادة المعرفية عن الحضارة العربية في المجالات المختلفة، كالأدب والتاريخ والفلسفة. وإنني إذ أتمنى على كل من يملك المقدرة على المشاركة أن يدعموا هذه المشاريع الحضارية كي تستمر، أثق بأن الكثيرين من أصحاب الثروات العربية الغيورين على ثقافتنا سيفعلون شيئاً من أجلها.
تحية لسلمى وتمنياتنا لها بطول العمر ومزيد من الإنجازات.
*أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق