ليس من قبيل المبالغة وصف مشروع ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، وتقديم الحضارة العربية الإسلامية إلى القارئ الغربي، وهو مشروع الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي الذي كرست له القدر الأعظم من نشاطها وجهدها الأكاديمي، بأنه ضرب من ضروب «الفتح» الثقافي. وأنا هنا لا استعمل كلمة «فتح» العربية للتذكير بجذرها اللغوي الحامل للكثير من الدلالات فحسب، وإنما للتذكير تحديداً بما أشار له الباحث الارلندي Kiberd أحد أبرز الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار، من أن فعل translate بالإنجليزية ومعناه (يترجم)، يتحدر من الجذر اللغوي لفعل (يفتح، يغزو).
وقد اكتسب هذا الفعل أهمية خاصة في مجال دراسات (ما بعد الاستعمار) Post-colonial studies، وهو مجال يشغل حيزاً مركزياً في دائرة أوسع هي «النقد الثقافي».
وتعليل وجود هذه الأهمية يكمن في أن العلاقة بين فعل (يترجم) وفعل (يفتح) ذات محمول معرفي يشير إلى محاولات الاستعمار الأوروبي القيام بعمليات تصنيف وتسجيل وتمثيل المجتمعات غير الأوروبية، وبالتالي فتحها لكي تصير قابلة للهيمنة والخضوع.
آية ذلك كله أن مشروع الدكتورة الجيوسي هو بمثابة «فتح» مغاير ل «الفتح» الأوروبي الذي تستقطبه نزعة مركزية أوروبية Eurocentrism طاغية. وهو بهذا المعنى محاولة لإعادة الاعتبار للهامش العربي في مواجهته المستمرة للمركز الأوروبي.
ولكن ما المقصود بالهامش؟.. المقصود بهذا المصطلح النظر إلى الثقافات غير الأوروبية، وعلى رأسها الثقافة العربية الإسلامية من زاوية المركز الأوروبي. وحتى في هذا الزمن الذي يحتل فيه مفهوم العولمة الثقافية موقع السيطرة في علاقات القوة غير المتكافئة بين الثقافات الأوروبية والثقافات الشرقية، ما زالت النزعة المركزية الأوروبية هي المهيمنة على الهامش الذي يشمل كل ما عداها. وتتجلى هذه النزعة في التردد بقبول فكرة كون الغرب قد اقترض شيئاً يُعْتَدُّ به من الشرق، أو رؤية أمشاج الفكر الشرقي الكامنة في داخل التراث الغربي. ولأن أوروبا تربط تاريخها الحضاري باليونان، فقد اعتبرت الحضارة العربية الإسلامية مجرد وسيط لا أكثر بينها وبين الحضارة اليونانية.
وبعبارة أخرى يمكن القول إن عدم وجود تكافؤ في معادلات القوة بين الطرفين، يحيلنا إلى مسألة تمثيل (أوروبا) للآخر. وقد كان كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد محاولة لتفنيد مؤسسة الاستشراق وليس وضع المستشرقين كلهم في سلة واحدة كما شاع لدى صدوره. فلا شك أن هناك مستشرقين أسهموا إلى حد كبير في الكشف عن الدور الذي لعبته الحضارة العربية في تكوين الحضارة الأوروبية.
والمقدمة التوضيحية التي وضعها إدوارد سعيد للطبعة الثانية من كتاب «الاستشراق» أوضحت بجلاء أنه تعرض لمؤسسة الاستشراق تحديداً وليس إلى جميع اسهامات المستشرقين.
وكما هو معروف فإن موضوع تمثيل (الآخر) هو محور كتابه الذي صدره بعبارة (ماركس) اللافتة عن الشرقيين: «إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم ولذلك يجب أن نقوم بتمثيلهم».
هذا الموضوع، موضوع تمثيل العرب لأنفسهم بدلاً من أن يمثلهم «المركز» باعتبارهم هامشاً له، يمكن أن يلخص إلى حد كبير جوهر الإنجاز الكبير الذي حققته الدكتورة سلمى. وقبل ثلاثة عقود تقريباً كان لي حظ الاطلاع عن كثب على تفاصيل المشروعين الثقافيين اللذين كانت تعد العدة لتدشين مراحلهما الأولى، متصدية بذلك للنزعة المركزية الأوروبية في داخل المؤسسة الثقافية الأوروبية والأمريكية نفسها. الأول، رابطة شرق - غرب (East-West Nexus)، وهو مشروع مكرس لدراسة الحضارة العربية الإسلامية وإنجازاتها، والثاني مشروع الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية (Prota). ولا شك أن من يسمع بهذين المشروعين اللافتين لا بد أن يتوهم أن وراء الأعمال الكبرى التي أصدرتها الدكتورة سلمى بالإنجليزية خلال عقود (وهي أعمال جليلة غطت إنجازات الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، والشعر العربي، والقصة والرواية في الأدب العربي الحديث، والمدينة الإسلامية، والسرد العربي الكلاسيكي، فضلاً عن ترجمات لأهم الشعراء والروائيين العرب)... لا بد أن يتوهم أن وزارات ثقافة في أكثر من بلد عربي هي التي حققت هذه الإنجازات. ولكن الحقيقة هي أن تحقيقها يكاد يكون عملاً فردياً. وقد نالت الدكتورة سلمى جائزة العويس للإنجاز الثقافي والعلمي، وجائزة إدوارد سعيد للإتقان والتميز، وجائزة وزارة التعليم العالي في الرياض لخدمة الحضارة العربية، إلا أن مشروعاتها الأخرى وعلى رأسها تغطية مشروع الحضارة العربية الإسلامية في صقلية - على سبيل تعداد القلة وليس الحصر - ما زالت تحتاج في رأيي إلى قدر أكبر من العناية والالتفات. فقد نجحت أيما نجاح بمخاطبة القارئ الغربي من خلال دور نشر عريقة تمثل مؤسسات استشراق وبحث ذات تأثير كبير ك (دار ليدن) في هولندا، و(كولومبيا برس) في الولايات المتحدة، واستطاعت بذلك أن تقدم إسهامها الكبير في أن يكون للعرب والمسلمين دورهم في تمثيل أنفسهم، بدلاً من أن يستسلموا لوضعهم كهامش في مواجهة النزعة المركزية الأوروبية بشقيها الأوروبي والأمريكي.
فهل سيسمح بتمثيل الهامش لنفسه وصيرورته مركزاً أن يستمر ويتطور وينمو؟..