لو قُدر لك الجلوس ضحى أحد الأيام في ردهة أحد الفنادق الفاخرة في مدينة الرياض، وأنت تتناول كوباً من القهوة وتتصفح إحدى الجرائد، ثم ترفع رأسك من القراءة لأخذ رشفة أخرى من ذلك الكوب، وإذا بك ترى سيدة محجبة بعناية ودون تكلف، يبدو عليها كبر السن، وتعتقد أنها قد تجاوزت السبعين من العمر بل ربما اقتربت من الثمانين، تمشي بشيء من الصعوبة وتتأبط حقيبة يدوية فيها كتب وأوراق، تبحث عن مكان معين تجلس فيه ربما استجابة لموعد هي حريصة على الوفاء به. لو حدث لك ذلك لقلت في نفسك إنه حري بهذه السيدة أن تستريح في بيتها وأن تجد من يحقق لها طلباتها من طعام وشراب وإطلاع علمي وثقافي دون أن تبذل أي جهد جسماني أو معنوي.
لكنك لا تعرف أن في داخل هذه السيدة نفساً شابة وثّابة وطموحة لا تعرف الملل أو التعب، وفي رأسها مشروع غير عادي تصر على إنجازه بكل ما أُوتيت من قوة وإصرار. وينطبق عليها تماماً قول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
أو قوله:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
تلك هي الدكتورة - سلمى الخضراء الجيوسي الناقدة والشاعرة الفلسطينية.
أما المشروع فهو تقديم الأدب العربي والثقافة العربية والإسلامية من خلال الترجمة إلى الإنجليزية، وهو ما سمته باختصار (بروتا Prota) ثم (اتصال الشرق والغرب East- West Nexus).
كان في إمكان الدكتورة - سلمى الاكتفاء بعملها باحثة وأستاذة للأدب العربي في أرقى الجامعات الأمريكية والأوروبية، لكنها اكتشفت أن الأدب العربي والثقافة العربية والإسلامية غير ممثلة بما فيه الكفاية بل أحياناً يُساء تمثيلها عمداً أو دون عمد، فقررت ترك ذلك العمل الذي ربما يغبطها عليه الكثيرون وشمّرت عن ساعد الجد للعمل على إنجاز هذا المشروع بمساعدة وتشجيع زملاء لها كثر في جامعات أمريكا وأوروبا.
لا أريد هنا ترجمة حياة الدكتورة - سلمى (وقد طلبت منها أكثر من مرة أن تكتب سيرة حياتها فوعدت) أو إيراد تفصيلات كاملة عن إنجازاتها العلمية. هذا متوفر على الإنترنت، لكنه حديث لا ينقصه الحميمية ولا تجففه الموضوعية. إنما أريد أن أتطرق فقط إلى عملين كان لي فيهما مشاركة مباشرة.
إن أول معرفتي بالدكتورة - سلمى كان في الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي عندما كنا طلاباً في كلية الآداب جامعة القاهرة نقرأ ما تنشره من قصائد في مجلة الآداب البيروتية، الرائدة في تقديم الشعر العربي الحديث إلى القارئ العربي.
ومضت الأيام سراعاً، إلى أن وصل عقد السبعينيات، وبعد أن رجعت من البعثة، وإذا بها تفاجئني بإرسالها مسودة أطروحتها الطويلة للدكتوراه، التي حصلت عليها للتو من جامعة لندن، تطلب نشرها من قبل جامعة الملك سعود، وهي بعنوان: الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، أرسلتها إليَّ بحكم عملي عميداً لكلية الآداب في ذلك الوقت، إلا أن الجامعة لم تستطع تلبية رغبتها حينذاك ربما لقلة الإمكانات في بند النشر العلمي. ولحسن الحظ قامت دار النشر (بريل Brill) في هولندا بنشرها عام 1977م في مجلدين. ثم توالت بعد ذلك الاتصالات الهاتفية بيننا، ومنها على سبيل المثال اتصال تم عندما كنت أقضي سنة تفرغ علمي في جامعة (ييل Yale) في الولايات المتحدة، حين سألتها رأيها في ترجمة كتاب نقدي، لعلمي باهتمامها بهذا المجال، ولقيت منها كل تشجيع ودعم.
وجاء عقد الثمانينيات، وتعاود الدكتورة - سلمى الاتصال بالجامعة وفي جعبتها مشروع ترجمة نماذج من الشعر العربي في العصور الإسلامية الأولى، مثل شعر المتنبي والمعري، إلى الإنجليزية. وكان مشروعاً مفصلاً متكاملاً بأهدافه ومحدداته وتكاليفه وطريقة العمل فيه. فطلبت منها الجامعة المجيء إلى الرياض لمناقشة المشروع، وكوَّنت لجنة من الأساتذة: شكري عياد، رحمه الله، أحمد الضبيب، منصور الحازمي، وانضممت إليهم. وهذا هو العمل الأول الذي شاركت فيه مع الدكتورة - سلمى. واقترحت اللجنة مشروعاً بديلاً وهو ترجمة نماذج من أدب الجزيرة العربية الذي لم يكن متداولاً حتى في الوطن العربي. فرحبت به وقامت مع اللجنة باختيار الأعمال التي ستترجم.
ولقد فُوجئت هي بغزارة هذا الأدب ومستواه الرفيع، وقد عهدت إلي اللجنة متابعة ترجمة تلك النماذج مع الدكتورة - سلمى إلى أن اكتملت المسودة. وكانت النتيجة مجلداً ضخماً مولته الجامعة ونشرته بالاتفاق مع دار النشر العالمية (كيجان بول Kegan Paul) في لندن بعنوان: مختارات من أدب الجزيرة العربية الحديث، عام 1988م. وقد أصبح مرجعاً رئيسياً لأدب الجزيرة العربية في الجامعات الأمريكية.
أما العمل الثاني فكان في مطلع الألفية الثالثة، حين قررت اللجنة العلمية في دار المفردات للنشر والتوزيع والدراسات بالرياض ترجمة مختارات من موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث (10 مجلدات) التي قامت بإعدادها ونشرها بدعم سخي من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، عام 1422هـ - 2001م، إلى اللغة الإنجليزية. ولما الدكتورة - سلمى من خبرة عالمية مرموقة في الإشراف على ترجمة ونشر مثل هذه المختارات، قررت اللجنة الاستعانة بها لتحرير هذه الترجمة، وقد نشرت في مجلد واحد بالاتفاق مع دار النشر (أ.ب - تورس I.B.Tauris) العالمية في لندن عام 2006م بعنوان: فيما وراء التلال الرملية: مختارات من الأدب السعودي الحديث، وذلك بدعم سخي آخر من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز. ولكوني عضواً في تلك اللجنة العلمية فقد شاركت مباشرة في اختيار الأعمال التي ترجمت وفي تحرير مقدمة هذا المجلد.
إن العمل مع الدكتورة - سلمى فيه تحدٍ كبير لكنه تحدٍ يورث لذة الاكتمال بعد الجهد الغزير الذي تتخلله أحياناً عقبات لا بد أن تذلل وإحباطات لا بد أن تطوع، كل ذلك نتيجة للروح المتألقة الرحيمة التي تبثها في نفوس الفريق الذي يعمل معها من مترجمين وباحثين ومحررين. ولعل أهم ما يميز عملها هو طلب الكمال، فهي بهذا تحقق عملياً تحذير المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
وهي خصيصة لا بد أن تتوفر في باحثة ترحب بنشر أعمالها دور نشر أكاديمية وعالمية مثل بريل، كولومبيا، إنديانا، وهذا تميز لا يتاح إلا لقلة من الباحثين في عالم اليوم الشديد التنافس على شرف حيازة الأعمال العلمية والثقافية المبدعة، كل ذلك مع تحليها بالتواضع الجم والحس الإنساني الرفيع، وهما شيمة العلماء على الدوام.
أما منهج (بروتا) في الترجمة، وهو ما تؤمن به الدكتورة - سلمى وتطبقه، فيمكن إطلاق مصطلح « التطويع» عليه، أي تقريب العمل المترجم إلى القارئ الأجنبي. تبدأ عملية الترجمة بقيام مترجم - مترجمة ثنائي اللغة بترجمة العمل ثم تقوم الدكتورة - سلمى بالاشتراك مع شعراء وكُتّاب مبدعين، لغتهم الأم الإنجليزية، بإعادة صياغة الترجمة في شكلها النهائي بحيث تقرأ وكأنها كتبت أصلاً باللغة الإنجليزية. وقد نجح أسلوب الترجمة هذا في انتشار أعمالها في الدوائر الثقافية والعلمية حول العالم.
ونظرة سريعة إلى الأعمال التي نشرتها، أو التي هي بصدد نشرها، تصور الجهد غير العادي الذي بذلته الدكتورة - سلمى لنشر الثقافة العربية والإسلامية: فقد نشرت حوالي (10) منتخبات (أنطولوجيات) أدبية، (7) كتب عن الحضارة العربية والإسلامية وقضايا أخرى، (11) رواية، (7) مجموعات أدبية لسبعة أدباء، كتابين في الفولكلور. كما كتبت (20) مقدمة نقدية ضافية لعشرين من الكتب التي نشرتها.
إن ما قامت به، وتقوم به، الدكتورة - سلمى تضطلع به عادة المؤسسات العلمية، الحكومية منها والأهلية، إلا أن الروتين وعدم وضوح الرؤية وضعف الالتزام يعرقل انطلاق مثل هذه المشروعات الكبرى واستمرارها، وقد عانت الدكتورة - سلمى من هذه المعوقات، لكنها تغلبت عليها بصبرها وكفاحها وإيمانها برسالتها العلمية الثقافية.
إن ما حظيت به من تكريم من بعض المؤسسات لا يرقى إلى ما تستحقه هذه السيدة المناضلة لإبراز صورة الحضارة العربية والإسلامية في أبهى حللها.
وأرجو أن يسمح لي أن أنهي هذه العجالة على نغمة شخصية: ففي إحدى زياراتها إلى الرياض حييتها بقصيدة رمزية فلسطينية، بالإنجليزية، بعنوان (الصخرة)، أقول فيها ما أترجمه:
إن ربة الشعر لخجلة أن
تنشر جواهرها في حضور
التي روضت جميع ربات الشعر،
بل ينبغي لها ذاك، فسكوتها
الآن وهنا ليس فضيلة.
ينبغي لها أن تشيد بعرافة المحبة
والمعرفة وهي تحول عالمين
متناحرين إلى وحدة إنسانية صافية.
هذه هي الوصفة المتشكلة،
المتعادلة مع الحجر الفلسطيني،
التي أخزت الجنرالات المروضين.
تلك السيدة النبيلة ألقت بروحها
في المعركة متفردة،
متحدية ذلك الوحش الذي ينفث نار
التعصب والتطهير العرقي،
ولم يروض بعد طيلة سنين من الركوع المهين.
فينبوعها المتدفق أبدا
يسيل منا لغويا
لكن له صلابة الصخر وصفاؤه.