كثير من المثقفين والكتاب العرب تعرفت عليهم أولا من خلال مؤلفاتهم أو أعمالهم الإبداعية أو النقدية. ثم أتيحت لي بعد ذلك فرص اللقاء مع العديد منهم، وفي فترات متباعدة أو متقاربة، وفي فضاءات شتى، وفي عواصم عربية من خلال مؤتمرات ولقاءات ثقافية أو أدبية. ويحصل الحديث والحوار والسجال والنقاش أو السمر. كما أن منهم من تعرفت عليه، فقط، من خلال البريد الإلكتروني، منذ أن صار أداة للاتصال في عالمنا العربي، فيكون التواصل والتحاور والتشاور، أو تكاليف بصدد مشاريع ثقافية أو إنجاز أعمال فكرية.
كل واحد من المثقفين والكتاب العرب الذين تعرفت عليهم، عن كثب وبهذا الشكل أو ذاك، يترك، في النفس، بصورة أو بأخرى قدرا معينا من التقدير والاحترام، وذلك تبعا لخصوصية كل وحد منهم أو لقيمة أعماله الفكرية أو الإبداعية، أو لسجاياه وأخلاقه العالية لأني أشد ما يكون من الحرص على الالتفات إلى الجوانب الإيجابية في الشخص، ولا أحب الالتفات إلى غيرها من الجوانب.
غير أن سلمى الخضراء الجيوسي من طراز خاص ونادر من المثقفات والمثقفين الذين تعرفت عليهم كثيرا. لقد كانت بداية المعرفة المباشرة من خلال مخاطبتي للمشاركة بكتابة مقدمة لكتاب مشترك عن «جحا العربي»، وترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية. كما أنها دعتني لإنجاز دراسة حول «الضحك في السرد العربي»، وأخرى عن « النثر الفني في صقلية الإسلامية «. وأنا الآن بصدد إعداد دراسة حول « السرد العربي في البرتغال العربية»، لمشروع تشتغل به حول الثقافة العربية في البرتغال. وأتيحت لي فرصة اللقاء بها في الرباط في ندوة حول خطاب الرحلة، وكان حضورها أيضا من أجل تكريمها في الدار البيضاء. وقبل هذا وذاك، تعرفت على العديد من مؤلفاتها خلال فترة دراستي في المرحلة الثانوية والجامعية.
إنها معرفة قديمة ومتواصلة. لكن فترة مشاركتي معها في مشاريعها الثقافية جعلتني أرى فيها شخصية فولاذية لا نظير لها في عالم الرجال العربي. وكنت أقول مع نفسي، مرارا وتكرارا، لو قيض لكل قطر عربي امرأة على شاكلة سلمى الخضراء الجيوسي لكان مجتمعنا خطا خطوات هائلة في سبيل التقدم. ولو كان في كل بلد عربي رجال من طينتها، وأنا لا أقلل من بركات هذا الوطن ورجالاته ونسائه، لكنا أمام وطن عربي مختلف تماما. إني لا أبالغ فيما أقول. بل إن ما أقوله قليل في حقها. لا أخفي مشاعر شتى راودتني وأنا أبعث إليها بدراسة، أو أكتب إليها رسالة. لقد كانت تجيبني في الحال، وكأنها دائما قرب حاسوبها. كاتبت الكثيرين، وكانت الإجابات دائما تأتي بعد أيام وأحيانا بعد أسابيع. وأنا أيضا أتلكأ مرارا في الجواب عما يردني من رسائل إلكترونية. وحدها كانت سلمى ترد على رسالتي في يومها. وتطلع على الدراسة في إبانها، وترفقها بملاحظاتها الذكية والعميقة. وعندما تطلع على الدراسة في صيغتها النهائية، تصلني مكافأتها في أسبوعها. هذا السلوك لم أجده إلا مع سلمى. لم يقم به مثقفون ولا مؤسسات ثقافية عربية لها عراقتها وتقاليدها. ولكن سلمى كانت أبدا مجندة ومتابعة وملحة وصارمة. وهي تمارس ذلك مع نفسها. وكنت أشفق عليها، نظرا لحالتها الصحية، فكانت خطاباتها تؤكد لي أبدا أنها الأقوى والأكثر جلدا ومقاومة ومكابرة.
إنها المرأة - المؤسسة
وإنها المرأة الفولاذية بامتياز. قد نفسر ذلك بقوة شخصيتها وعمق ثقافتها وتعدد تكوينها. لكن التفسير الذي أراه مناسبا هو إيمانها القوي والذي لا يمكن أن يقارن أو يضاهى بالقضية الثقافية العربية، وحبها الذي لا يمكن أن يكون له نظير، للغة العربية. ولهذا نجد ذلك ماثلا في كل أعمالها ومشاريعها الإبداعية والثقافية والفكرية.
لقد خدمت الثقافة العربية واللغة العربية، على كيفيتها الخاصة والتي لا نجد من قام بها كما حققتها. لقد جعلت الثقافة العربية متداولة بغير لغتها. كما جعلت اللغة العربية نافذة نطل من خلالها على ثقافة الآخر. وفي هذا الإطار نتحدث بإجلال عن المرأة المؤسسة. ويكفي القارئ أن يعود إلى الأعمال التي أشرفت عليها، وقدمتها بالإنجليزية ليقف على حقيقة المجهود الذي اضطلعت به على هذا المستوى. كما يكفي القارئ أن يرجع إلى ترجماتها العديدة لمصادر في الثقافة الغربية والأمريكية ليجد النصوص الأجنبية تتقدم إليه بلغة عربية جميلة وعميقة لا أثر فيها لعجمة الترجمة أو لكنة التعريب. وهذه الصفة لوحدها كافية لتقديم سلمى الخضراء الجيوسي مثقفة من طراز رفيع وكبريت أحمر نقدمه مثالا لمن يقدم على الترجمة إلى اللغة العربية.
إنها شخصية متعددة الأبعاد. فعلاوة على مشاريعها الجليلة خدمة للثقافة واللغة العربيين، ومن خلالها خدمة القضية العربية، يمكننا الحديث عن الشاعرة الأصيلة، والناقدة البصيرة بشؤون الأدب والفن والمث قفة الموسوعية. خصال وخلال متعددة تضفي على شخصيتها طابعا خاصا تلتحم فيه الصرامة بالليونة، وتمتزج فيه الحدة والصلابة بروح المرح والخفة والفكاهة.
لا يمكن أن تتعدد هذه الأبعاد والطبائع في شخصية سلمى بدون تعدد أحاسيسها وانتماءاتها. فهي الفلسطينية، الأردنية، الأمريكية، المغربية،،، تختلف الجذور والأصول القريبة والبعيدة، والنشأة وبلد الإقامة والجنسية، ولكنها تصهر كل ذلك في انتمائها إلى الإنسان وتختزلها في الإنسان صاحب القضية العادلة. فإذا هي المفرد بصيغة الجمع والجمع المقدم بالمفرد.
لكل هذا وذاك مما تضيق عنه العبارة، أرى سلمى الخضراء الجيوسي المرأة - المؤسسة.
المغرب