تبدأ (حكاية الحداثة)، إن جاز لي أن أسميها تيمناً بمسمى كتاب الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، منذ ظهور الحركات الإنسانية في القرن الخامس عشر الميلادي تقريباً والتي تؤمنُ بأنّ الإنسان قادرٌ على عقلنةِ العالمِ باستخدامِ العقلِ، والخبرةِ، والقيمِ الإنسانيةِ المشتركةِ، وبأنّ الإنسان قادرٌ على أن يحيى حياة كريمة من غير الدين! فكان هذا الفصل الحاسم بين الدين و شؤون الحياة. وبالتدريج تداعى عالم الإيمان القديم الذي يمثّل الاله فيه مركز وجوده. وهو عالم قائم على فكرةِ «سلسلةِ الوجود» القديمةِ: الفكرة المتجذِّرة في ضمير الإنسان الغربي، والتي تقوم على تصوّرِ الوجود، كسلسلة تبدأ بالخالق ثم يتعاقب من بعده تباعاً كافة المخلوقات، بدءاً بالمخلوقات السماوية، فالإنسان ووصولاً إلى الحيوانات والكائنات الأقل أهمية. لقد أخضعت فكرة «سلسلة الوجود « العالم لنظام كوني مركزه الإله جلّ جلاله، وحين انهار ذلك العالم القديم، اختل التوازن النفسي للإنسان الغربي بفقدانه لمركز الوجود!
ان وصفُ باسكال (1623-1662) القديمُ لفقدانِ التوازنِ، الذي أربك صلة الإنسانِ الحميمة بعالمِه، يبدو مُنطبقاً تماما على عالم الإنسان الغربي الحديث:
إننا نعومُ في بيئةٍ ذاتِ مدى واسعٍ، منجرفين دائما بلا يقينٍ، محمولين جيئة «وذهابا؛ وكلما ظننا أننا تعلقنا بنقطةٍ ثابتةٍ تعلُّقاً متيناً، أزاحتنا وتركتنا خلفها؛ فإن لحقنا بها، راوغت قبضتنا، وانزلقت بعيدا، وفرت من أمامنا إلى الأبد. لا شيء يبقى ثابتًا إزاءنا. إنّ هذه هي حالتنا الحقيقية ، لكنّها الحالُ النقيضةُ تماما لنزعاتنا. نحترقُ رغبة في إيجادِ وقفةٍ ثابتةٍ، قاعدةٍ باقيةٍ نهائيةٍ لعلنا نبني عليها برجاً يتسامى صوب الأبدية، لكنَّ أساسنا كله يتداعى وتنحدر الأرضُ إلى أعماقِ الهاوية».
وسطور ييتس (1865-1939) الافتتاحية الشهيرة من «المجيء الأخير» (1941) The Second Coming، يبدو كأنها تُردّد كلماتِ باسكال الاعتذارية:
دائراً، دائراً في الدوامةِ المتوسّعة
لا يستطيعُ الصقرُ أن يسمع الصقّار؛
كل شيء يتداعى؛ يمور المركزُ بلا ثبات؛
وعلى العالم تنطلقُ الفوضى المجرّدة.
إنّ ذلك الإنسان الذي كان يرى في الزمنِ المسيحيِّ مركز كينونتِه، يبدو مرتعباً من «دوامةِ الزمنِ المتوسّعةِ « بلا توقُّفٍ، دالة على عمليةِ التفسُّخِ المتزايدة. ثم نجح الكُتّابُ الحداثيون في إيقافِ «دوامةِ الزمنِ المتوسّعةِ» ببناءِ «برجٍ يتسامى صوب الأبدية» ولا يتطلبُ «أساساً» ذا مكان. فقد تبنوا تصوُّر الواقعِ الجديد، منطلقين من نظرياتٍ جديدةٍ نُشرت في الربعِ الأخيرِ من القرنِ التاسع عشر، وتركت أثرها على عالمِ الأدب. في العام 1889، اكتشف هِنري بيرغسُن وسائل التفكيرِ في الواقعِ بمنطقِ الزمن الداخلي، مُقدِّما فكرته حول الديمومة: الزمنِ الذاتيِّ الموجودِ في اللاوعي كتدفقٍ مستمرِّ الحركة. في كتابه، مبادئ علم النفس (1891)، يصف وِليم جيمس هذا الواقع المتدفق بأنه «تيارُ التفكير، أو الوعي، أو الحياة الذاتية»، الذي تلعب فيه الذاكرةُ التي كان الرومانسيون أول من أكد على أهميتها ، دوراً رئيسياً في هذا الواقع الجديد، الزمن الداخلي.
* اللاواعي بالكتلةِ الضخمةِ المغمورة.» هذه الصورةُ تشرحُ حقيقة أنّ في ذاكرةِ المرءِ مستويين من الوعيِ : المكانِ الأقربِ إلى اللاوعي، حيث تُحفظُ الذاكرةُ الخفيّةُ، والمستوى الأعلى في العقل، حيثُ الإدراكُ العقلانيّ. أما المكانُ الذي يؤلِّفُ جوهر كينونةِ الإنسانِ، فهو اللاوعي. هذه هي منطقةُ الإشعاعِ الذي يُضيءُ الوعي بإمكانياتٍ تحيطُ بالفعل. وواقعُ الأمر، إن الحدس هو وسيلةُ الاتصالِ الوحيدةُ التي تلتقطُ جوهرالواقع. يُناقشُ بيرغسُن أهمية الحدسِ في مقاله، «فهم الواقعِ من الداخلِ،» وهي مقولةٌ قالها لأول مرةٍ في ورقةٍ نُشرت عام 1903.وفي تقديمِه أطروحته، يشرحُ طريقتين مختلفتين جذريا لمعرفةِ «شيءٍ» ما: «إما أ ن ندور حول الشيءِ»، وهذه هي الحالة حينما نأتي «الشيء» فكريًا، أي بالتحليل العقلي ، أو «أننا نلجُه» حينما نأتيه حدسياً. «ونعني بالحدسِ ذلك التعاطف الفكري الذي يضع به المرءُ نفسه داخل شيءٍ ما لكي يتزامن مع ما هو فريدٌ فيه، فهو لذلك غيرُ قابلٍ للتعبيرعنه بالكلمات». قد تصلُ هذه الطريقةُ في المعرفةِ إلى «المطلق.» بينما طريقة «التحليلُ هي العملية التي تختزلُ الشيء إلى عناصر معروفةٍ أصلاً، أي إلى عناصر مشتركةٍ بينهاوبين أشياء أخرى.» بناء عليه، لعلّ هذه الطريقة في المعرفةِ « تتوقّف عند النسبيّ.» وإذ يقتصرُ إدراكُ المرءِ على ذلك، فهذا يعني أن النفس أصبحت مُثبتة على»أنا المجردةِ من العاطفة،» التي يُدركُ حبلُ حالاتِها النفسيةِ ككياناتٍ منفصلة. تبعًا لذلك، لن تكون ثمة ديمومةٌ: ليس هناك عملية صيرورة مستمرةٌ. (الديمومة) «ذلك أن الأنا التي لا تتغيّرُ لا تدوم»؛ أي أن «الحالة النفسية التي تبقى كما هي فلا تُستبدلُ بالحالةِ التاليةِ لا تدوم.» لكن حين يُدركُ المرءُ الواقع حدسًا، يكونُ في مقدورِه أن يتحرك إلى الأمام و إلى الخلفِ في تيارِ الوعي، رابطاً الحالاتِ النفسية في عمليةِ صيرورةٍ مستمرة.
يتبع
الرياض