في أوائل السبعينيات من القرن الهجري الماضي كنا أطفالاً صغاراً، نذهب كل صباح إلى المدرسة الحكومية الوحيدة في بلدتنا.. كانت في القرية المتاخمة لقريتنا من الجهة الجنوبية.. لم يكن في زماننا وسائل نقل إلا الحمير التي كان يضن بها رب الأسرة على الأولاد، وإذا تجرأ تلميذ وطلبها من أبيه لا يسمع إلا عبارة «سر على أقدامك وعلى مواطيك الحفا»؛ فهي في نظره لم تخصص لهذا النوع من التفاهة(!).. كنا نمضي إليها سيراً على أقدام حافية، يلسعها الطل ببرودته القارسة؛ إذ لم نكن نرى الأحذية إلا عند القلة من كبار السن، ومن كثرة ما لامسته أقدامنا تعودنا عليه حتى لم يعد يشكل همًّا للواحد منا، ألم يقل الشاعر: «لكل امرئ من دهره ما تعودا»؟.. لكننا في أحد الصباحات لمّا وصلنا إلى منتصف الطريق أشار علينا أحد الرفاق، وكان يكبرنا قليلاً، قائلاً: «دعونا نتغيب عن المدرسة اليوم؛ كي نرتاح من لسع العرقة (سوط الجلد)». فاستحسنا الفكرة بالإجماع. ثم قال: «اتبعوني»، فولجنا إلى مسراب يسلكه مرتادو السوق والمزارعون، وقد عزمنا على البقاء في منحنى سفح الجبل في الناحية الشرقية، حتى إذا رأينا الطلاب وهم ينصرفون من المدرسة سبقناهم إلى القرية، وكأننا كنا معهم داخل الفصول. كنتُ أصغرهم سنًّا، وقد اكتشف أحدنا أن والد كبيرنا الذي علَّمنا الهروب يكاد يصل إلينا بعدما رآنا عن بُعد لولا أنَّا طرنا إلى أعلى الجبل في خفة الظباء عندما يقترب منها سبع مفترس.
لقد كانت سرعتنا في الهرب سبباً قوياً في جعله ييأس من ملاحقتنا؛ فأمضينا النهار في المراعي، ولما نفد زادنا المكوَّن من خبز القمح، ومعه حبات قليلة من تمر بيشة، لجأنا إلى مختلف النباتات نأكل أغصانها النضرة الطرية، وثمارها اليانعة لسد الرمق. وبينما كانت الشمس تزحف نحو المغيب رويداً ذهبت السكرة، وحضرت الفكرة، وأخذنا نفكِّر في الخروج من هذا المأزق الذي كنا في غنى عنه لولا مشورة رفيقنا إياها، فاستقر الرأي على المبيت في واد قريب من موقعنا، وفي الصباح يقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فعمدنا إلى إعداد حُفَر في تخوم مزرعة على الطريق على هيئة القبور المصغرة هرباً من البرد، وتخوفاً من السباع، هكذا أملت علينا سذاجتنا. وبعدما قطعنا شوطاً فيما نحن بصدده صرفنا النظر عن الفكرة، وقررنا الدخول إلى القرية القريبة من موقعنا، وكنا على معرفة بقيّم مسجدها؛ علَّه يسمح لنا بالنوم في المسجد حتى الصباح، ومن ثم نتجه للمدرسة لنواجه مصيراً مرعباً في ضوء قسوة مدير المدرسة، فأخبر المجموعة بوفاة عمتي المتزوجة في قريته، وأخبرنا أن زوجها أعد عشاء على روحها كعادة الأهالي في مناسبات موت أحدهم، لكنه لم يكمل حديثه بعدما أحاط بنا آباء بعضنا إحاطة السوار بالمعصم؛ حيث أمسك كل أب بولده، وبقيت خارج اللعبة؛ لأني يتيم الأب؛ فاتجهت إلى بيت العزاء، وهناك وجدت أفراد القرية في انتظار العشاء المكوَّن من صحون الأرز الأبيض ولحم ذبيحة لا تكاد تكفي بضعة نفر، وقد أعملنا أيدينا في التهام كل ما في الأطباق، ما عدا كبار السن الذين كانوا يرون في الأرز مادة سيئة للتغذية؛ حيث أُعِدَّ لهم طعام من «دغابيس» القمح، ثم جاؤوا بالذبيحة، وبرز لها نفر من أفراد القرية تولوا تقطيعها نتفاً صغيرة، وحملوها في صحون ومعهم من يتولى توزيعها على الحضور، من أولهم إلى آخرهم، ولا تسألوا عن حصتي؛ فقد كانت جزءًا مفردًا بطول بضعة سنتيمترات مع ضلع الذبيحة، وقطعة صغيرة من الكرشة، وكان الله بالسر عليماً.
في صباح اليوم التالي استأنفنا الذهاب إلى المدرسة برفقة الرجل الذي رآنا بالأمس وحاول اللحاق بنا، والمعروف عندنا بأنه من أشرس الآباء وأعنفهم، وكان قصده من مرافقتنا حث مدير المدرسة على مضاعفة معاقبتنا؛ كي لا نعود إلى ما بدر منا مرة أخرى، مع أنه يدري أن المدير لا يحتاج إلى حث أو تحريض. وقد كنا في حال لا نحسد عليها، وكأننا مجرمون ينتظرون إقامة الحد عليهم، وفي لمح البصر أُحضرت «الفلكة»، ونلنا ما تيسَّر وما تعسَّر من الجَلْد المؤلم الذي كان يلامس أرجلنا بحرارة نارية، تركتنا لا نقوى على المسير.. وأنَّى لنا أن نفكِّر في الهرب مرة أخرى.
الباحة