طلع كابوس أم الجعافر إني ماجايبلها وردة حمراء في عيد الحب بدأت أعراض الزهايمر عالولية اللهم صبر جميل والله المستعان أمس جايبلها وردتين» (جعفر عباس - تويتر) هذه التويتة من الكاتب الساخر جعفر عباس تقع في داخل منظومة سخرية وتهكم من الزهايمر، فالاستخفاف بهذا المرض يأتي في صيغ متعددة، نسمعها كل يوم، يرددها ضاحكاً كل من تعرض لنسيان شيء ما. فإن حاول أحدهم أن يتذكر اسم شخص أو موعد لقاء نجده يقهقه: «معليش أنا نسيت ههههههههه.. العتب على الزهايمر بعيد عنك.. الزهايمر ضرب خلاص ما انت عارف.. ههههههه.. اعذرني يا عم.. الزهايمر نقول إيه.. هههه.. معليش.. انت عارف الزهايمر شغال.. هههههههه». هذه الكلمات التي ترسم من حول الزهايمر جواً من المرح والتضاحك لا يعرف وقعها المرير إلا من يسكن في بيته وقلبه حبيب نهشته براثن المرض الوحشي، كلما قهقه الناس من حوله شعر من يرعى مريضه بسكاكين تغوص في داخل قلبه، ويتعجب من انعدام الإحساس من قلوب الآخرين، ويتساءل: ما هو المسلي إلى حد الضحك كل يوم في حالة مرضية مستعصية؟؟ أهالي مرضى الزهايمر لا يستسيغون النكتة، ويعتصرهم الألم حين يتفكه الناس بمرض لعين سلبهم أعز الأحباب!!!
حين أطلق الفنان عادل إمام فيلمه «زهايمر» توقعنا أنه يتصرف كما يفعل كبار النجوم في الخارج إزاء القضايا العامة في المجتمعات المتحضرة، خاصة أنه سفير للنوايا الحسنة، وأنه سوف يستغل الفيلم لنشر الوعي بهذا المرض الفتاك ليساعد الناس بالمعرفة وطرق التعامل. لكن خيبة الأمل كانت كبيرة؛ ففي لقاء له في برنامج سكووب على قناة إم بي سي سأله المذيع: «هل تسلطون الضوء على هذا المرض أم تستعينون به في الأحداث؟» رد الفنان الكبير: «بنستعين به في الأحداث». وبالفعل دارت أحداث الفيلم في إطار كوميدي بحت، وكان التعامل مع مرض الزهايمر بطريقة فكاهية سمجة استغلت كل أعراض المرض في انتزاع الضحك من المشاهدين بدلاً من استدرار تعاطفهم وتفهمهم.
عادل إمام لم يخترع مسألة الربط بين الزهايمر والتنكيت، لكنه ركب موجة اجتماعية جارفة لا تستطيع أن تقاوم الضحك كلما ذكر أمامها اسم هذا المرض.
ولا أظن أن كوميديان يستطيع تحريك الجمهور إلى القهقهة مثلما يفعل سمير غانم وهو يردد مضخماً حرف الزين من اسم المرض للمزيد من التندر: «ظهايمر بقى.. حا نعمل إيه؟؟»!
ما هو المضحك في مرض يُعتبر ثاني أخطر مرض في العالم تعاني منه البشرية؟؟ في أمريكا وحدها يعاني من الزهايمر ما يقارب ستة ملايين شخص، والعدد يتزايد كل عام، أما في السعودية فقد كشف الاستشاري السعودي فهد الوهابي عن وجود نحو خمسين ألف مصاب بالزهايمر، رغم أن طبيعة المجتمع في التستر على المرضى تجعل هذه النسبة مجرد تقدير نسبي.
هل الأمر مُسَلٍّ ومبهج؟ أم مأساوي ومفزع؟!! كم من التوعية نحتاج لنكتشف أن الفرق شاسع بين أن تنسى أين وضعت سلسلة مفاتيحك وأن تنسى أين تسكن؟ المصاب بالزهايمر ليس عجوزاً خرفاً، بل مريضاً قد لا يتجاوز الخمسين من عمره أكل المرض خلايا مخه، وانتشر في تلافيفه كالسرطان تماماً. الخرف نسيان طبيعي للأشياء والأحداث، لكن الزهايمر يمسح الذاكرة تماماً حتى لا يعرف المريض معنى لوجوده، ولا يتعرف على نفسه في المرآة، ويفقد جميع قدراته، ومعها يفقد إنسانيته وكرامته.
تخيل لو أنك دخلت إلى بيتك بعدما خرج منه لص محترف سرق كل محتوياته كلها.. تخيل تلك اللحظة التي تفتح فيها الباب فتشك أنك في منزلك؛ لأن العلامات التي تركتها اختفت جميعها. الزهايمر لص محترف، يتسلل في ليل أظلم إلى دماغ الإنسان فيسلبه ذاكرته بما حوت، ويتركها خاوية. هل تتخيل ما هو الفزع الذي يلازم مريض الزهايمر حين يجد نفسه غريباً تائهاً تتسارع ذاكرته في هجرانه حتى ينسى اسمه ونفسه وخالقه؟ هل تتصور ذلك الوقوف على حافة الهاوية وأنت موقن ألا مفر من السقوط فيها دون أن ترى لها قاعاً؟؟ خائف ومرعوب ووحيد، يقضي مريض الزهايمر آخر أيام وعيه وعيونه زائغة، لا يعرف كيف يستخدم لغة يشرح بها ضياعه ولا آلامه. وتتلاحق آيات عجزه فينسى كيف يتكلم وكيف يمشى وكيف يمضغ طعامه ويبتلعه.
هنالك فَرْق كبير بين أن تنسى موعداً على العشاء وأن تنسى كيف تفتح عينيك في الصباح.. فرق شاسع بين أن تنسى اسم صديق لم تره منذ زمن بعيد وأن تنسى كيف تريد وكيف تتمنى وكيف تحلم. الزهايمر كلمة كلها أسى وحرقة، ولا تثير ضحكاً ولا حتى شفقة، هي كلمة حارقة وكاوية. فقط لأنك من المحظوظين الذين تجاوزهم المرض لسبب ما ما زال مجهولاً، فذلك لا يعطيك الحق في أن تتبسم وتهزأ منه، في حين أن غيرك مذبوح، ويحمل في قلبه خزانات من الدموع على آلام أحبائه الذين يعانون ويعاني معهم كل يوم وليلة؛ فالزهايمر مرض الوداع الطويل؛ لأن المريض يتدهور تدريجياً، ويأخذ معه جزءاً من الشخص الذي كنت تعرفه جيداً، تراقبه كل يوم فيختفي ويتلاشى شيئاً فشيئاً، وأنت تراقب عاجزاً عن مد يد العون، وهو يختفي عاجزاً عن مقاومة انجرافه نحو المجهول. هل أسمع قهقهات تستخف بكل هذا العذاب الإنساني؟ ربما يظن أحد أن مرض الزهايمر لا يسبب آلاماً. من جاور حبيباً مصاباً بهذا المرض تصم آذانه صرخات تولول، أنين وآهات، كلها تزيد من همومه؛ لأن مريضه لا يعرف كيف يصف ما يشعر به ولا كيف يشير إلى أي موضع من جسده يفتك به الألم.
تقول ستيفاني بين المسؤولة في المعهد الفرنسي للوقاية: إن الزهايمر أصبح كارثة حقيقية في مجتمعاتنا العصرية؛ ذلك أننا لا نعرف الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة به، ولا نملك الوسائل الكفيلة بحمايتنا منه. وتحذر ماري أوديل ديزينا رئيسة الجمعية الفرنسية للزهايمر: «الوضع يستدعي دق ناقوس الخطر». في مؤتمر الزهايمر الدولي الأول الذي نظمته الجمعية السعودية الخيرية لمرض الزهايمر في الرياض الأسبوع الماضي تحدث رئيسها الفخري سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز عن أهمية تكثيف الجهود التوعوية بالمرض، وتوسيع دائرة تعريف الناس بالمرض والتأثير في الآفاق الإنسانية الخيرية. ربما تصل الجمعية إلى هذا الهدف النبيل؛ ليعرف الناس حقيقة هذا المرض الخبيث الذي ينهش خلايا الدماغ خلية خلية، ويتلف الناقلات العصبية إلى غير رجعة. ربما حين يدرك الناس خطورة هذا المرض، الذي لا يُعرف له سبب ولا علاج، يتوقفون عن التفكه والضحك والسخرية من مرض ليس بنكتة.
همسة في أذن أميرتي: حبيبة قلبي.. كم أتوق لأن تكوني أمي مرة أخرى..
lamiabaeshen@gmail.com
جدة