بانوراما مراسم الموت في رائعة القصيبي: المواسم!؟ عبدالله عبدالرحمن الجفري
|
* غمرتني كلماته.. كثَّفت شجوني.. استدعت أحزاني الهاجعة، ومنحت ما تبقَّى من الحلم في العمر: جناحا طائر نورس يأخذني بكل حزنه إلى المنطقة التي يعيشها (غازي القصيبي)، وعشت بعضاً منها، وأعيشها الآن مثله - ما بعد السنين - وصراع الروح، وأزمة الجسد العليل، والتئام الجروح ما اندمل منها وما بقي كشلال بات يعاني الجاف.. وكيف نجعل الجروح تلتئم وقد صبغ نزفُها لحظات لا تهون من العمر!
ثم.... هذه (الوحدة) التي استعار المؤلف شبهاً لها، فإذا هو هذا الغصن الذي بقي بمفرده على شجرة العمر... وهذا (الطائر) الذي أخبر عنه في المواسم بأن: (الأطيار تركته ورحلت عنه عاجزاً عن اللحاق بها)!!
فهل ينوء صاحب السنين بحملها، أم ينكرها ليواصل التحدي المحدود والمتبقي بازدياد وطأتها في كل خلية من خلاياه؟!
***
* هكذا سافر بي (غازي القصيبي): الرسام الدقيق في تلوين الملامح وتجسيدها من خلال كتابه الجديد: (المواسم)، الذي حدثني عن الإبداع في مضمونه وكتب عنه: أخي الأعز حمد القاضي... وإذا ب(المواسم) تدق باب ذاكرتي وبريدي: تخايلني في أرجاء مكتبي - صومعتي التي أغتسل فيها بالقراءة حتى من الأزمة التي أصابت الجسد، ومن الابتلاء الذي يطارد الروح!
- هتفت: الله الله... أيُّهذا هذا (الغازي) لوجداننا بكلماتك الأكثر متعة، وصورك ولوحاتك الإنسانية الأكثر حميمية!!
ولست أدري... هل أراد (غازي) أن يلكز خاصرة الروح في قارئه الإنسان، أم تراها الشجون تدافعت من محاجر عينيه، وأمامه صورة البيت القديم في (الرفاع) - وصدى السنين الحاكي - وهو يهدي كتابه إلى صديقه - خالد بن محمد القصيبي، رفيق المواسم السعيدة والكئيبة؟!
لقد عاش العمر (مواسم) إذن؟!
وردد مقولة الصاحب القديم: (عجب في عيون العجائب).
وليس الموت الذي ننتظره هو الأقسى، بل الموت الذي يخطف من نحب لتتحول الحياة إلى قافلة حزينة.
تجارب عديدة عبرت حياة هذا الإنسان، شكلت ثقل الصدمة ومعاناتها... ثم ما تلبث الروح أن تنعتق من أزمتها التي أوجدها فَقْد من نحب، وابتعاد (الحلم) مسافات.
كلمات (حنونة) لصور تلد ذلك المطلق الذي يتشبث بالحلم.
فهل الحب، والحلم: مواسم؟!
أم أن (المواسم) هي: الموت، والوحدة؟!
هناك أشياء: ننجذب إليها.. تغرينا، فندعها تحاذي عاطفتنا، لكننا لا نحبها.
وهناك أشخاص: قد ينتهكون مشاعرك ليرموك في الصقيع والفراغ.
وأشخاص: يفعلون في أعماقك (رجفة المتصوف).. لتحبهم كأنهم الدرب الشاسع الذي يمتد بالعمر.
إن تحرير العلاقة الإنسانية: هروب، وتوثيقها: حب آخر أو مضاعفاً.. وتبقى الحياة: (مواسم) حب وحلم، واختلافاً وغربة، وتوافقاً وتناقضاً، وتوأمة بأبعاد الشفافية الروحية.
***
* فهل اكتشفنا السعادة؟!
صفحات من القبور وعنها.
وقبور أشار إليها المؤلف، كانت صفحات حميمة من حياة أعزاء رفقاء في مشوار العمر... وبين القبور والصفحات: تناثرت دموع (غازي)، ليست مثل كلمات الرثاء، بل مثل (تابلوهات) حزينة: كثيفة الظلال، غميقة الألوان، شاسعة الأبعاد.
وكيف لا يبرع (غازي) في رسم هذه التابلوهات، وشخوصها هم أحبَّاء عمره.. هم كل حياته بمواسمها السعيدة والكئيبة.. هم: حريته وشجونه عن السعادة والإيمان، والرجفة والصمود، والضعف والقوة؟!
لقد صوّر عبث السنين وأيام المواسم، والذكريات... حتى يتمكن مرورُ السنين من العبث بالجسد، ومن التطويح بالروح... وحتى تمتلئ النفس بغبار الكآبة الرمادي حسب تصويره، وقبل أن يصبح كل يوم هو: الامتحان الشاق، وتتحول كل ليلة إلى محنة قاسية.
***
* ويواصل الكاتب د.غازي القصيبي مراحل مواسم الحياة، ليتوقف حيث لا تتوقف الحياة لموت أحد، بل يعود المازالوا يعيشون - وليسوا كلهم أحياء الروح والوجدان - إلى (الروتين اليومي، والعذاب المتكرر الذي يحسدك عليه كثيرون، ويكرهك بسببه كثيرون، ويحبك من أجله كثيرون)... ولابد أن تبتسم في كل هذا الزحام، وتتمسك بالحكمة القديمة: (الحب هو أن تحب ما لا يُحَب، وإلا فهو ليس بفضيلة).
وتصل بنا صفحات الكتاب إلى: مواسم التقاعد في رحلة قطار العمر، ويدور حوار بين الرجل وزوجته ص 36:
- (هل تدرين ما أفعل بعد أن أتقاعد؟ ولا تقول هي شيئاً، وتقول أنت: سأختار جزيرة صغيرة جداً من الجزر اليونانية على الأرجح، وأشتري أرضاً صغيرة أبني عليها بيتاً صغيراً شبيهاً بالصومعة وسوف أتأمل الشروق والغروب، أتأمل المواسم المتعاقبة، أتأمل الألوان والظلال، وأتلذذ بالصمت)!!
ويتواصل الحوار حتى يبلغ به الكاتب محور هذا الحلم، فيكتب سائلاً:
- (هل يشغلك صيد السمك عن هموم الوطن، وهل تستطيع أن تضحك في واقع محزن، وهل تتقاعد المسؤولية مع تقاعدك)؟!
إنها حكاية (الفتى غازي) الذي يحسدونه على الكتابة وهو في كرسي الوزارة، ولا يدرون أنه يتنفس طبيعياً حين يكتب، وأنه يمزج بين الجسد والروح.
إنها حكايته مع مَنْ أحبهم من أهله، ومَنْ حوله، ومن عمل معهم.. وكأن (المواسم) تكملة لكتابه الجميل: (العودة إلى الأماكن القديمة)!!
وفي هذا الكتاب: عودة إلى مواسم العمر كله بأماكنه وشخوصه وأحداثه.
إنه تصوير وتجسيد للحضور وللغياب في فلسفة الحياة والموت، ونتائج هذه الفلسفة عبر مشوار (قد نعيشه سلفاً ونتائجه غير مضمونة) كما قال كاتب عربي!
***
* الحياة: دخول إلى التجربة، وشساعة عاطفية تتدفق في الذكرى والحنين، ومواجهة الضغوط التي تلاحقنا ونفرُّ منها.
مدُّ متلاطم من الأحلام والطموحات على امتداد سنوات العمر، ومن الفجائع والصدمات، ومن الحب والكراهية... حتى يبلغ الإنسان إلى التأمل الحزين، ولن يعيش حياتك أحد غيرك، لكن (غيرك) يتفرج عليك كأنك مرآته التي تعكس له وجه حياته.
لم يكتب (غازي) عن الحياة السهلة... ذلك أن (المواسم) في عمره ذات تداعيات إنسانية بالغة السخرية حيناً، والحكمة حيناً، و.... محاولة الهروب من الرمز إلى التمرد، ومن الاستسلام إلى التحدي، ومن الذات إلى كل ما سكنها وعمَّرها من الحب.
فهل رسم هذه التابلوهات للمواسم من الذاكرة، أم من الذكرى التي توحَّدت مع لحظات تأمله ووحدته مع نفسه، أم رسمها للذاكرة.. لتجترَّ كل هذا الصدق في ملامح مَنْ رحلوا من الأحياء، ومن خلَّفوا وراءهم الأصداء والحنين وغرسة الحب التي تجذرت في أعماق النفس؟!
لقد عبَّر د.غازي في (المواسم) عن حضوره المكثف في الذكرى والوفاء، وأصداء الحب، وعن شروده إلى تأمل من باتوا في الخارج.... وكأنه بقي هو وحده في الداخل!!
a_aljifri@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|