بكتابة مقدمته هل أخطأ المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون؟ 2-2 ندى الفايز
|
عندما ذكر ابن خلدون: إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط، وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من دون مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم.
ويقول أيضاً: إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج على ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له، فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه اثافي القدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه، والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه فيخربون السقف عليه، لذلك صارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران.
ويضيف ابن خلدون: ان العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين جملة، والسبب في ذلك انهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم.
الأمر الذي أجده غير صحيح على الإطلاق ويحتاج لتوضيح وتفنيد أكثر خصوصاً أن العديد من المستشرقين ومراكز البحوث الغربية الاستراتيجية قامت بالاعتماد على مقدمة ابن خلدون بوصف الشعوب العربية بالمتوحشة والتأكيد على أنهم شعوب متوحشة غير حضارية وغيرها من النظريات المؤلمة التي قام الغرب ببنائها استناداً إلى مقدمة ابن خلدون العربي وشاهدة عصره التاريخية على أبناء جلدته من العرب حتى ان أحد مراكز الأبحاث بالوطن العربي التي تمول من الولايات المتحدة تحمل اسم ابن خلدون كنوعٍ من التذكير أو تثبيت فكرة التوحش والبربرية غير الحضارية التي أُلصقت بالعرب من قبل ابن خلدون نفسه.
كما أرى أنه (لا ) يصح لابن خلدون قول ذلك بحق أي شعبٍ كان عربياً أو غير عربي خصوصاً أن الشرع الإسلامي قبل العقل يرفض هذا الوصف والتعميم الذي أرى أنه جاء من منظور شخصي وواقع تجربة مريرة مرت بابن خلدون وكان يجب أن (لا) يقوم بتعميمها عند وصف العرب قاطبة بالتوحش وغيرها من الصفات الشريرة بل كان على ابن خلدون الرجوع والاحتكام إلى القرآن الكريم الذي وصف العرب المسلمين بوصف خالفه ابن خلدون عند كتابة المقدمة ووقع بخطأ تعميم تجربته الشخصية على طبيعة شعوب الأمة العربية بأكملها، ولم يحتكم إلى القرآن الكريم وقوله تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) سورة آل عمران (110).
أضف إلى ذلك أن في مقدمة ابن خلدون الكثير من الأخطاء بحق العرب وعيوب بمنهجية البحث العلمي التي اعتمدت على تعميم التجارب الشخصية واعتبار التوحش وغيرها من الصفات الشريرة، صفة اجتماعية ملازمة للأمة العربية قاطبة و(لا) أريد الخوض أكثر في ذلك وأترك لغيري من المتخصصين بهذا المجال خصوصاً علماء الاجتماع والشريعة الإسلامية مناقشة الأمر، وبعدها اما اعتدلت (أو) اعتزلت هذه القراءات النقدية.
خصوصاً أنه وبمفهوم العصر الحديث لو قام مؤرخ أو عالم بكتابة ما كتب ابن خلدون عن العرب لاعتبر بهذا العصر معارضاً سياسياً للأمة العربية قاطبة، وعلى الرغم من وجود العديد من المستمسكات على الفكر الخلدوني الذي غض الطرف عنه نوعاً ما على مر التاريخ والأجيال ولم يتناول بشكلٍ عميق وموسع وبل تنافست الدول في نسب ابن خلدون إليها حتى كادت تقع قطيعة ثقافية بين تونس والجزائر ومازال كلا الطرفين حتى الآن يدرس طلبة كل دولة تاريخ المؤرخ بصورة مختلفة عن الآخر، حيث يذكر التونسيون بالمناهج التونسية أن ابن خلدون يعد تونسياً أما الجزائريون فيعدون ابن خلدون بالمناهج الجزائرية جزائرياً!!!
وعودة إلى الموضوع الرئيس (لا) ريب أن طبائع الأمة العربية ليست متوحشة وشريرة كما وصفت بمقدمة ابن خلدون بغض النظر عن كونه تونسياً أو جزائرياً أو حتى مصرياً، المؤلم أنه يعمم فكرة التوحش على العرب حتى ان الغرب المعادي أطلق اسم ابن خلدون على الدراسات والأبحاث المغرضة ضد العرب واعتبر كتابه من أهم المراجع التاريخية لفهم تركيبة الشخصية العربية والشعوب العربية قاطبة!!
وقطعاً لم يبق للتذكير سوى أنه بالإمكان فهم وجود أخطاء بطبائع البشر التي (لا) ترقى إلى الكمال لكن من المستحيل استيعاب فكرة تعميم ظاهرة التوحش وغيرها من الصفات الشريرة على شعوب الأمة العربية قاطبة واستمرار احتفاء أجيال هذه الأمة جيلاً بعد جيلٍ بتلك الأخطاء وغيرها مما احتوتها مقدمة ابن خلدون، بينما ما زال العلماء العرب جيلاً بعد جيلٍ يشاركون بهذا الخطأ عبر الاحتفاء المبالغ فيه بمقدمته دون التفحص العميق وإجراء قراءات نقدية لأفكارها التي لا ريبَ أنها تأثرت بالعوامل والبنية الاجتماعية التي عاشها المؤرخ الذي لو طرق باب الشعر والقصيد لأصبح من أعمدة الأدباء العرب وذلك للإحساس المرهف الذي يحمله ابن خلدون على ما أعتقد.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|