هدأة العقل النقدي تجربتي النقدية مع جابر عصفور يحيى بن الوليد
|
الناقد والمفكر جابر عصفور (قيمة تداولية) في الثقافة المصرية والعربية معا، لما يكشف عنه خطابه من قراءات عميقة ودراسات رصينة لنصوص أدبية وإشكالات نقدية وقضايا فكرية مصيرية.
وتتأكد هذه القيمة، أكثر، بالنظر إلى جبهاته المتعددة التي تجمع بين نقد النقد وقراءة التراث النقدي (البعيد والقريب) والنقد الأدبي الخالص وفكر الأنوار (العربي) وفكر الترجمة والنظرية النقدية المعاصرة و(الاتكاء على المقال) في الصحافة. هذا بالإضافة إلى (دور المثقف) الذي يضطلع به، داخل المجتمع المصري، من خلال مؤسسات الدولة وفي مقدمها (المجلس الأعلى للثقافة) الذي ارتقى به إلى مصاف (الصناعة الثقافية) ذات (الفاعلية) الملحوظة في المشهد الثقافي العربي ككل. وفي ضوء ما سلف لا يبدو غريبا أن أكون - وبتواضع - واحدا من الذين استهواهم (معرفيا) هذا الخطاب الإشكالي منذ فترة مبكرة من حياتي الأكاديمية والثقافية الحرة. وكانت الحصيلة ثلاث دراسات: (التراث والقراءة - دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفور) (القاهرة، 1999) و(جابر عصفور وقراءة التراث) و(أنوار جابر عصفور) (وهما في الطريق إلى النشر). هذا بالإضافة إلى دراسات متفرقة في مجلات متخصصة، موازاة مع حوارات دعاني إلى الإسهام فيها صحافيون من الزملاء ممن يعرفون انهمامي ب(خطاب جابر عصفور).
ورغم هذه الحصيلة فإني لا أزال أشعر بمزيد من الحاجة إلى مواصلة دراسة هذا (الخطاب المركب) لما يتيحه من إمكانات جديرة ب(توريط) ما يمكن نعته ب(الفكر القرائي) في نطاق (الكشف) عن (المستندات) المعرفية والتصورية التي يستند إليها هذا الخطاب. غير أني آثرت، هنا، أن أحيد عن (الآلة النقدية الصارمة) في الحديث عن هذا الخطاب، وذلك من خلال ما سميته ب(تجربتي النقدية مع جابر عصفور). وأظن أن (قامة معرفية)، في حجم قامة هذا الأخير، تتيح إمكانية الحديث عن هذا النوع من التجربة. إلا أن الحديث عن هذه التجربة لا يخفي بدوره، وكما سنلاحظ، نوعا من (التحليل المضمر) بل ومفارقة للحديث عن هذه التجربة في أحيانا.
وفي الحق ما كنت أتصور أن كتابي الأول، والأول حول جابر عصفور في الوقت نفسه، وعلى (أخطائه) التي سأشير إلى بعضها، كان سيثير، وداخل مصر طبعا، اهتماما ملحوظا ومتفاوتا تبعا لتفاوت المواقف من جابر عصفور. غير أن هذا الاهتمام لم يكن يخلو، في جانب منه، من بعض الالتباس الذي نسعى هنا إلى (فك) بعض جوانبه وبدافع من الإسهام في (إضاءة) خطاب الرجل. وفي هذا الإطار استخلص صحافي، من مصر الشقيقة، وفي حوار مع جابر عصفور، جل أسئلة الحوار من الكتاب ودون أن يشير إليه سواء من قريب أو بعيد. بل إن الأسئلة كانت، في أحيان، خلاصات كنت قد انتهيت إليها. ولست،هنا ، في مقام الاتهام والتخوين، وإنما بصدد الإشارة إلى (آليات الاشتغال الذهني) في الثقافة العربية الحديثة. إلا أن ما سلف لا يمنع من الحديث عن (السرعة) التي تطبع أداء العديد من الصحافيين، مما يكون له انعكاس على مستوى إدارة الأسئلة والأجوبة المترتبة عنها.
وللإشارة فإن جابر عصفور، أو (هدأة العقل النقدي) كما أنعته، واحد من (الكبار)، وخصوصا في الآونة الأخيرة، من غير المحظوظين على مستوى (الحوارات) التي يمكن لها، وبالنظر إلى براعته الشفوية أيضا، أن تستخرج منه أفكارا عديدة جديرة بأن تعكس عمق الناقد والمفكر فيه. لقد غطت - وللأسف - صورة إدارة المجلس الأعلى للثقافة - التي يتحملها مسؤوليتها منذ العام 1993 حتى الآن - على العديد من الحوارات التي أجريت معه وبدافع من (الاستهلاك الصحافي. وقد بدت ثنائية (المثقف والسلطة) جلية في نص الحوار المطول الذي أجري معه، وضمن ملف مكرس له أشير فيه إلى كتابي، إذ بدا تلخيصه في (التماهي مع السلطة) منذ أول سؤال. ولذلك كان على صاحب (الصورة الفنية)، وعلى مدار الحوار بأكمله، أن (يجرد) ترسانة (أفكاره) حتى يباعد بين خطابه و(فخ التماهي).
إجمالا فالحوار يستند بدوره إلى (مفهوم) قرين فعل (الفكر) ذاته أو قرين فعل (الكتابة) ذاتها في عوالمها اللامتناهية. وحتى إذا كنا نسلم ب(الخلفيات) التي يستند إليها المحاوِر فإن ذلك لا يحول دون التشديد على مراعاة (انساق) النقاد والمفكرين قبل الإقدام على محاورتهم تأكيدا لمبدأ فضيلة الصحافة وأهميتها الراديكالية على مستوى الإسهام في تفعيل الخطابات واستنبات الأسئلة الحارقة، وكل ذلك في المنظور الذي يجعل منها جزءا لا يتجزأ من الواقع الثقافي والإيديولوجي بقاماته المختلفة وأطيافه المتعددة.
وفي هذا الصدد تحضرني فكرة لافتة كان قد عبر عنها محمد شكري (1935 - 2003)، في المحور الأول المتعلق بالحوار ذاته، ضمن الحوار/ الكتاب (2003) الذي أنجزته معه، ونص هذه الفكرة: (وراء كل جواب ذكي سؤال ذكي). أجل لا أخفي أنني لم أطلع بعد على الحوار المطول مع جابر عصفور الذي آل إلى كتاب (الابتداع والاتباع في الثقافة العربية) (2003)، غير أن ذلك لا يحول دون القول بإن الرجل لا يزال في حاجة إلى حوار مطول يشمل جبهاته المتعددة سالفة الذكر. وحوار من هذا النوع قد يعكس (تنوع) خطابه الذي لا يخلو من (وحدة) بسبب من (النسق) الذي هو - في النظر الأخير - نسق الناقد الذي لا يفارق صاحبه سواء في تعاطيه لظواهر الأدب أو قضايا الفكر. ومثل هذا الحوار بإمكانه تقديم إضاءات دالة ومتكاملة بخصوص هذا الخطاب الإشكالي الذي يمتد من أواخر سنوات الستين حتى الآن، وعلى نحو يدل بموجبه على نوع من (الإفادة من كل معطى متاح) وعلى (المواكبة المتواصلة).
و(هدأة العقل النقدي). وسيرا على فكر التنوير الذي أخذ يلوي بخطاب جابر عصفور ابتداء من مفتتح التسعينيات بادر السائل، في نص الحوار الأول، إلى (منطق الاستعادة) الذي يلازم تعاطيه لميراث التنوير، وكان رد هذا الأخير السريع إشارته إلى كتابه (ضد التعصب) الذي يفارق حقا هذا المنطق. ولعل في هذا الرد ما يلمح إلى ضرورة القراءة الماسحة أو الاطلاع - ولو البانورامي - على الخطابات قبل الإقدام على محاوَرَة أصحابها. ويظهر أننا نستند، هنا، إلى (مفهوم) الحوار القائم على (منطق الشراكة) لا (لعبة السؤال/ الجواب). وللإشارة فقد بنيت قراءتي لتعاطي جابر عصفور لميراث التنوير، في الكتاب سالف الذكر، على (منطق الاستعادة) الذي يبدو جليا في كتابيه الأولين في (جبهة التنوير)، أي (هوامش على دفتر التنوير) (1994) و(أنوار العقل) (1996). وفي هذين الكتابين يستعيد أحداثا ونصوصا ووقائع دالة، وبقوة، على الاستنارة التي سادت الفكر العربي في بدايات القرن العشرين مثل مناظرة محمد عبده وفرح أنطون حول فلسفة ابن رشد، وترجمة سليمان البستاني ل(إلياذة) هوميروس واحتفاء الأوساط الثقافية بها، ومحاكمة طه حسين وقاضيها المستنير محمد نور... إلخ. والغاية من كل ما سلف تتجاوز (منطق الاستعادة) إلى - وبتعبير جابر عصفور الأثير - (استخلاص) دلالات التنوير من أجل الرد على ما يسميهم ب(المكفراتية) و(جبال الإرهاب) و(رمال الإظلام). غير أن (منطق الاستعادة) سرعان ما سيتبدد في كتاب جاب عصفور اللاحق (ضد التعصب) (2000) الذي كان من تحصيل الحاصل ألا نعتمده في كتابنا الذي كان قد ظهر قبله بعام واحد.
ومن المتحقق أن الكتاب الأخير قائم على (فكر المواجهة) لا (فكر الاستعادة)، وهو ما لا تخطئه القراءة الأولى. وكما أن الكتاب يتعامل مع (حرائق) لا صلة لها بالماضي (القريب)، بل إنه يتعامل مع محاكمات وموجات تكفير وسجون.. لمفكرين وكتاب وفنانين من مصر وسورية ولبنان والكويت. وكأن (القمع)، والأمر بالفعل كذلك، واقع يشمل العالم العربي ككل. فالكتاب، في صميمه، (كشف) عن (آليات) التعصب وإدانة لها في الوقت نفسه، وكل ذلك بالاعتماد على منظور جريء قرين (فكر المواجهة) لا (وهاد المخايلة).
ولعل هذا ما دفعنا إلى إنجاز دراسة مطولة حول الكتاب، وقد نشرت تحت عنوان (الأدب ومواجهة الإرهاب) بمجلة (نزوى) العمانية (العدد 42، أبريل 2005). والظاهر أن (منطق الاستعادة) بدوره لا يخلو من (رؤيا) أو بالأدق من (تأويل)، وهذا ما قصد إليه جابر عصفور نفسه من خلال تسمية (العودة التأويلية) في (هوامش على دفتر التأويل) (1994، ص182).
إجمالا إن العودة سالفة الذكر لا تخلو من (تاريخية) ومن (تأويل) بالقدر نفسه، وكل ذلك من أجل - ما يردده جابر عصفور في جميع مقالاته حول التنوير - (الارتقاء بالمجتمع من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية)، من مستوى النقل والاتباع والتعصب والتخلف والدولة العقائدية.. إلى مستوى العقل والإبداع والحوار والتسامح والتقدم والدولة المدنية الحديثة... إلخ.
والسؤال/ الخلاصة الثانية، في نص الحوار، تتعلق بميل جابر عصفور إلى صاحب (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) الناقد الأندلسي حازم القرطاجني (608 - 684 ه/ 1211 - 1285م). وقد اهتديت إلى هذه الخلاصة انطلاقا من (تحليل محايث)، وعلى مدار أربعين صفحة، لدراسة (الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب) (1974) الذي يبدو فيه ميل جابر عصفور جليا لحازم القرطاجني، بل إن هذا الميل يتأكد منذ نص المقدمة التي ينعته فيها ب(الناقد الجليل). وكما أن هذا الميل سيترسخ، وأكثر، في دراسة جابر عصفور الثانية (مفهوم الشعر) (1978) التي واصل فيها معالجة الموضوع نفسه (قراءة التراث النقدي النظري عند العرب)، إذا انتهى - واعتمادا على مبادئ (التأويل المحايث) التي ثقفها في أمريكا - إلى أن تصورات حازم القرطاجني تمثل (مرحلة التكامل) بخصوص (مفهوم الشعر)، مقارنة مع تصورات ابن طباطبا العلوي (322ه/ 933 م) وقدامة بن جعفر (326ه- 937 م) التي تمثل (مرحلة التشكل).
وتجدر الإشارة هنا، وبإيجاز شديد، إلى أن هذا الميل - أو (التحيز المعرفي) - له مبررات إبستيمولوجية عميقة يقع في مقدمها تأثير العميد طه حسين (1989-1973) ودعواه - وفي نطاق الجامعة المصرية الوليدة - المتمثلة في الأخذ ب(الغارة الهيليتية) في الدرس النقدي والبلاغي، وكل ذلك في منظور أوسع لم يكن يفارق (المناخ الليبرالي) السائد وقتذاك الذي تعود بدايات إشاعته إلى (أستاذ الجيل) لطفي السيد (1872-1963). وبالإضافة إلى تأثير طه حسين كان هناك تأثير تلميذ هذا الأخير عبد العزيز الأهواني (1915-1980) الذي كان متخصصا في التراث الأندلسي. وقد كان لهذا الأخير تأثير بالغ في فكر جابر عصفور وحياته، ولذلك خص له حيزا مهما في كتابه التنويري (الاحتفاء بالقيمة) (2004)، بل إنه - وفي دلالة بالغة على عمق التلمذة والتأثر - أهدى له كتابه الأول (الصورة الفنية).
ولا أخفي أنني خلطت، في كتابي الأول، بين عبد العزيز الأهواني وأحمد فؤاد الأهواني (1908-1970) الذي كان الكاتب المصري عاطف العراقي قد خصه بفصل ضمن كتابه (العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر) (1995). وقد انتهى صاحب السؤال، وانطلاقا من ميل جابر عصفور إلى حازم القرطاجني، إلى أطروحة (الغرب الإسلامي) التي يأخذ بها المفكر المغربي محمد عابد الجابري (ويمكن أن نضيف محمد مفتاح). وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى عبارة (استعادة العقلانية النقدية) التي انتهى إليها المفكر المغربي في الجزء الثاني (بنية العقل العربي) (1986) من مشروعه المعمد ب(نقد العقل العربي).
ومن الواضح أن مجال النقد (والأدب عموما) ظل (مغيبا) في مشروع (نقد العقل العربي)، ويمكن أن نبرر ذلك ب (التحليل الإبستيمولوجي) الذي يوجه أفق هذا الأخير. إضافة إلى أن الجابري رأى في الانفتاح على الأدب ما يقوده إلى نوع من (التحليل الأنثروبولوجي) الذي حرص على الابتعاد عنه.
وفي هذا المنظور: منظور التكامل يمكن الجمع بين محمد عابد الجابري وجابر عصفور، ومن ثم يمكننا أن نضيف حازما القرطاجني إلى لائحة (العقلانية النقدية) المتمثلة - عند الجابري - بابن رشد وابن خلدون وابن حزم... إلخ. وفي هذا الإطار يمكن أن نلتقط إحالة الجابري، في الجزء الأول (تكوين العقل العربي) (1984) من مشروع (نقد العقل العربي)، إلى دراسة جابر عصفور (الصورة الفنية)، وبما ل(فكر الإحالة) من دلالات لدى المفكرين الكبار.
وغاية القول، هنا، إن الجمع بين جابر عصفور ومحمد عابد الجابري، وإن من ناحية (أطروحة الغرب الإسلامي)، ولو في استنادها إلى (العقلانية النقدية)، لا يظهر واردا لدى الأول، ومن هنا كانت إشارة هذا الأخير إلى (تحيزات) الجابري في قراءة التراث. إلا أن ما سلف لا يفيد عدم تقدير (النمط القرائي) الذي يمثله محمد عابد الجابري إلى جانب المفكر الجزائري محمد أركون كما يبدو جليا في القسم النظري من كتاب جابر عصفور (قراءة التراث التقدي) (1991). ومن هذه الناحية فهو يصنفهما ضمن تيار (القراءة التنويرية) تمييزا لها عن (القراءة الانتقائية) التي يمثلها زكي نجيب محمود وفهمي جدعان و(القراءة التثويرية) التي يمثلها طيب تيزيني وحسن حنفي وأدونيس وحسين مروة (منشورات عيبال، ص 44). والظاهر أن الجمع بين محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وخصوصا من ناحية إشكاليات القراءة، لا يستجيب ل(أفقيهما) المختلفين رغم انتمائهما إلى (الفضاء المغاربي). هذا بالإضافة إلى (الإبستيمولوجية الراديكالية) التي تطبع تعامل أركون مع التراث عكس قراءة محمد عابد الجابري التي تقفز على (الظاهرة القرآنية) إذا جازت عبارة مالك بن نبي.
وعلى مستوى آخر يمكن الجمع بين المفكرين من ناحية (سردية التنوير) ذاتها التي لا تستجيب بالحدة المصرية ذاتها للآفاق الفكرية للفضاء المغاربي.
وفي قصة أخرى اعتمد شاعر وصحافي معروف كتابنا في سؤال مباشر في حوار مع جابر عصفور وكان السؤال كالتالي: (أشار الباحث المغربي الوليد بن يحيى إلى أنكم لا تربطون بين أزمة النقد العربي وأزمة الأبنية الاقتصادية والسياسية، وتسعون خلف (المركز النقدي الأوروبي والأمريكي). هل تعتقدون فعلا أن النقد العربي الحديث أنجز شيئا لافتا في هذا السياق؟) وكان جواب جابر عصفور، وكعادته، طويلا، إلا أن أهم ما يلفت الانتباه فيه أن (الربط بين هذه المستويات من ألف باء الماركسية) وأنه (ليس مجندا لمركزية نقدية أمريكية أو أوروبية). والمؤكد أن الشق الثاني من السؤال (المسايرة للمركزية الغربية) لا صلة لي به سواء من ناحية التصريح أو التلميح، وإنما هو من باب (الافتعال القرائي). إن (مشروع) صاحب (أنوار العقل) بعيد عن أي نوع من - ما يطلق عليه في (نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي) - ب(التملق الثقافي) ل(الغرب)، بل إنه يقع في قلب (نقض المركزية النقدية الأمريكية والأوروبية).
وقد كتب في هذا الموضوع أكثر من دراسة غير أن ما هو جدير بالبرهنة على النقض سالف الذكر هو دفاعه الواضح عن ما راح يعرف في خريطة النقد العالمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة ب(نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي) التي سلفت الإشارة إليها قبل قليل والتي يصوغها (أبناء العالم الثالث) في (العالم الأول) وفي مقدمهم إدوار سعيد (1935
- 2003) الذي افتتح هذا الحقل بكتابه الإشكالي والصادم (الاستشراق) (1978). وربما توجبت الإشارة من قبل إلى (تحصن) جابر عصفور ب(التراث) العربي العقلاني (في شقيه البعيد والقريب)، مما سهل عليه عدم (الانصهار) أو (الذوبان) في (المركزية) السابقة؛ بل وتوجبت الإشارة إلى أنه خصص الجانب الأكبر من عمره الأكاديمي لدراسة هذا التراث و(تهويته) إذا جازت عبارة محمد أركون.
إجمالا فكتب جابر عصفور اللاحقة (آفاق العصر) (1997) و(نظريات معاصرة) (1999)، إضافة إلى سيل من مقالاته المتناثرة، كفيلة بتبيان سعة اطلاعه على هذه المركزية و - الأهم - عدم (الانبهار) بها أو (التجند) لخدمتها و(الترويج) لها. وفيما يتعلق ب(الربط) - وغير الآلي حتما - بين الأبنية الفكرية والثقافية والأبنية الاقتصادية والاجتماعية فهذا (وارد) في (الصناعة الثقافية الثقيلة)، ولا أدل على ذلك من آداب أمريكيا اللاتينية التي أعطت حداثة شعرية وروائية.. رغم الأزمات الاجتماعية المتفاقمة والديكتاتوريات المستبدة، بل إن هذه الحداثة كان لها (تأثير) على حداثة الغرب الرأسمالي ذاته.
وثمة جانب آخر في الأشكال يتصل بما يمكن نعته ب(الماركسية الغربية) التي تنعت ب(ماركسية البنية الفوقية)، وخصوصا في المنظور الذي يفضي إلى التشديد على (الأفكار) التي تتحدد من تلقاء ذاتها؛ ومن هنا منشأ مفهوم (الخطاب) - بمعناه الأركيولوجي - الذي يسهم في (توجيه) التاريخ والمجتمعات. ثم إن (النقد الثقافي) - الذي أخذنا نسمع عنه في الآونة الأخيرة - لا يخرج بدوره عن هذا الدائرة، وجابر عصفور بدوره أفاد من هذا الأخير في بعض دراساته. حصل (سوء فهم)، بل وتوجيه لكلامنا نحو ما لم نكن فيه. ونحمد الله أن الفكرة نفسها لفتت انتباه معدي ملف (الحدث الدولي والعربي) حول جابر عصفور، بل وتم اقتباسها في سياقها الكامل وليس في سياقها المبتسر الذي تحكم في السؤال. لقد تم اقتباس النص كاملا، ووضع له عنوان مركز - ولنتأمله - (خلخلة المركز النقدي). يقول النص (ونستحضره على طوله وللإيضاح): (لا ينظر الناقد (أي جابر عصفور) إلى أزمة النقد في ضوء أزمة الأبنية الاقتصادية والسياسية، فهو يقيسها من ناحية مقدار الحضور الفاعل والتلقي الموجب لتراث الآخر ونظرياته ومناهجه، ومن ناحية الصوت المتميز داخل الأصوات العالمية المنتجة. ولذلك فهو يشدد على ما يسميه (خلخلة المركز النقدي) (الأوروبي والأمريكي) من قبل (خطاب ما بعد الكولونيالية)، وهو خطاب نقدي جديد يهم أبناء العالم الثالث وينظر إليه العالم باحترام وتقدير. ويتزعم هذه النظرية إدوار سعيد وإعجاز أحمد وهومي بابا. وأهمية ما تطرحه هذه النظرية أن الثقافة ليست وسيلة معرفة، بل فضاء تتفاعل فيه شتى العناصر، فهي خطاب يفعل ويتفاعل. ولذلك فدراسة الخطاب الثقافي تتيح إمكانية التعرف على كيفية تخييل الآخر في اللاوعي الشخصي والجمعي وكيفية قولبته لإقصائه وتهميشه.
وعلى صعيد الطرح النقدي فهي تركز على الرواية، وترى أنها جنس أدبي واكب المشروع الاستعماري. والسرد الأدبي، الذي تقوم عليه الرواية، له مرجعية تاريخية، جغرافية، والسياسة والاقتصاد متلازمان داخله ويشكلان جزءا من الوعي في أثناء السرد.
واللافت للنظر أنه (أي جابر عصفور) لا يدعو إلى التواصل مع الغرب فحسب، بل إلى تواصل أبناء العالم الثالث مع بعضهم البعض كذلك. ومن هنا يمكن أن نفهم تركيزه خلال السنوات الأخيرة على (طفرة النقد المغربي) ودعوته إلى الإنصات إلى أصواته.
هذا بالإضافة إلى أنه من المثقفين المصريين القلائل من الذين لا يرون أي حرج في أن (القاهرة لم تعد العاصمة العربية.. الوحيدة) (ص8). وحين أنظر الآن إلى هذا الكتاب الذي افتتحت به مساري النقدي المتواضع استعيد تفاصيل عديدة في مقدمها بداية اللقاء المعرفي مع جابر عصفور. وقد حصل ذلك في السنة الثانية الجامعية في إحدى كليات الآداب الهامشية بالمغرب (تطوان) حين قادني (استغلاق) كتاب (عيار الشعر) - المقرر في مادة النقد العربي القديم - إلى كتاب (مفهوم الشعر- دراسة في التراث النقدي) الذي خصص فيه صاحبه جابر عصفور قسما مهما لكتاب ابن طباطبا، ولا أزال أتذكر كيف أني انبهرت بقدرة صاحب الكتاب على (التأويل المحايث) و(تتبع المفاهيم) و(مناط النظرية)... إلخ.
وفيما بعد اطلعت على كتابه (الصورة الفنية) ليترسخ، في ذهني اسمه، أكثر. هكذا ظللت أحلم بولوج قارته النقدية والمعرفية إلى أن رحلت إلى كلية الآداب بالرباط لمواصلة دروس (الماجستير) ضمن شعبة (المناهج المعاصرة) التي كان يدرسها لنا الدكتور محمد برادة والدكتور أحمد بو حسن والدكتور إدريس بلمليح الذي سيوافق لي عام 1994 على تسجيل موضوع (جابر عصفور وقراءة التراث) لنيل شهادة (دبلوم الدراسات العليا) (الماجستير). وهي الرسالة التي سأناقشها، في الكلية نفسها، يوم الجمعة 30 أبريل 1998، من قبل لجنة علمية ترأستها الناقدة فاطمة طحطح إلى جانب الزميل الناقد المعروف بشير قمري.
ولا أخفي أنني أسرعت بعض الشيء في إنجازها وبدافع من الرغبة في تحسين أوضاعي المهنية التي لم تتحسن - وللأسف - حتى الآن، وتلك قصة أخرى ذات صلة ب(تحقير الثقافة والمثقفين) على امتداد البلاد العربية. والأهم أن صاحب الرسالة تمت مناقشته باعتباره واحدا من (النقاد الشباب) ممن يعول عليهم في إثراء الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب.
وكما أن الرسالة - وكأغلب الرسائل - تخللتها أخطاء، ووجهت لها ملاحظات وانتقادات سعدت بها. وفي ضوء ما سلف كان من الواضح أن أفكر في إعادة صياغة الرسالة من جديد وتعديل بعض أفكارها قبل نشرها في كتاب مستقل ، وهو ما فعلته خلال عطلة الصيف التي أعقبت المناقشة. وبعد ذلك سلمتها لأستاذي إدريس بلميح، ليسلمها بدوره، وبعد أن وضع لها مقدمة مستفيضة، للزميل الناقد سعيد يقطين حين كان في زيارة إلى القاهرة. وعلى مدار هذه الفترة كانت الرسالة قد عرفت طريقها للنشر عن إحدى دور النشر الوازنة في القاهرة.
ولا أخفي أنني سعدت كثيرا لنبأ الكتاب رغم الأخطاء التي كنت قد أدركتها من قبل، وحاولت تفاديها وبدءا من اسم صاحب الرسالة (ابن الوليد يحيى) الذي اقتضته لوازم التسجيل الجامعي الإداري. وسعدت مرة ثانية لأن الكتاب أشير إليه أكثر من مرة في الصحافة المصرية والعربية، بل وقدمت له عروض مستفيضة على نحو ما فعل الشاعر والكاتب المصري حسن خضر في مجلة (البيان) (العدد 372- 373). وليس من شك في أن مرد كل هذا الاهتمام إلى جابر عصفور (الشخصية - العلامة) في الثقافة المصرية والعربية على السواء.
وبالنظر إلى ما اعتور الكتاب من أخطاء وثغرات ظللت أتطلع إلى مواصلة دراسة خطاب الرجل، خصوصا بعد أن تدافعت إصداراته لتصل في مفتتح الألفية الثالثة إلى ما يقرب من عشرين إصدار هذا بعد أن كانت لا تتجاوز ستة كتب في فترة إنجاز الرسالة. غير أن ظروف إعداد الدكتوراه، وحول موضوع مغاير (قراءة التراث في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب)، وعلى مدار أربع سنوات، وقد نشرت بدورها في القاهرة (2004)، أخرت العمل. وظللت على هذه الحال إلى مقدم موسم 2003 الذي تفرغت فيه، وبالكلية، ومن جديد، ودون أي تنكر للكتاب السابق، لخطابه. وكانت الحصيلة كتابان: الأول حول (أنوار جابر عصفور) لما بدا لي للموضع من صلة وطيدة ب(أداء المثقف) و(سياقات الحاضر)، والثاني حول (جابر عصفور وقراءة التراث) وهو معرفي محض. ذلك هو جابر عصفور في جبهاته المتعددة، العقل النقدي والأكاديمي الرصين والجامعي المتسامح... والمثقف المحدث.
..........................................مصر
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|