جابر عصفور وإعادة بناء العلاقة بين المثقف والدولة فؤاد السعيد
|
لا نبالغ إذا قلنا أن جابر عصفور كان -ولا يزال - الناقد المصري -وربما العربي -الأكثر بريقاً وعمقاً وتجدداً بين النقاد العرب المعاصرين، وقد أفرد دارسو الفكر العربي المعاصر العديد من دراساتهم لتأكيد هذا الدور المتميز.. ولكننا هنا -وفي هذه العجالة - سنحاول استكشاف باب آخر من أبواب تميز عصفور، ليس في مجال الفكر ذاته وإنما في مجال (إدارة الفكر) - إن صح التعبير - أي أن الحديث هنا لا يتعلق بالمحتوى الفكري لإنجاز عصفور النقدي المتفرد، ولكنه ينصب على عملية (صناعة) المناخ الثقافي العام الذي تسهم (الإدارة الحكومية للثقافة) في تشكيله، بحيث تفتح أمامه آفاق التفتح التجدد والتنوع أو تغلقها دونه، خاصة في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية التي لم تصل الحركة الثقافية فيها إلى مستوى تأمين حقوقها الكاملة كجزء فعال ومؤثر من حركة المجتمع المدني على وجه العموم بشكل مستقل عن الدولة.
من هذا المنظور تطرح علينا تجربة جابر عصفور -كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة هذه المرة -أسئلة من نوع مختلف : مفهوم المثقف؟ دوره؟ مشروعة؟ علاقته بالدولة؟ علاقته بالرأي العام خاصة تيارات التشدد والانغلاق والتعصب فيه؟.. الخ.
سقوط البارادايم الثقافي
يمكن القول بأن خبرة الفكر العربي الحديث والمعاصر قد أثمرت ما يمكن أن نطلق عليه البارادايم Paradigm أو النموذج الأساسي الذي حكم -ولا يزال يحكم لدى البعض - طريقة النظر لمعادلة الثقافة العربية وخياراتها المعاصرة، ويقوم هذا البارادايم على أن ثمة أطرافا أساسية ثلاثة تتفاعل فيما بينها لتحديد وجه هذا الخيار الثقافي- الأيديولوجي -السياسي لمجتمعاتنا، وهي مشروع التنوير العصري من ناحية والمشروع الإسلامي من ناحية ثانية، وأخيراً هناك الطرف الثالث الرابض على أرض الواقع والذي لا يمكن تجنبه لا في حساب الخيارات ولا في حساب المستقبل، وهو مشروع الدولة الوطنية العربية الحديثة أيا كانت أشكالها وتجسداتها، وهو المشروع الذي يتسم بقدر ملحوظ من الواقعية والبراجماتية بحكم مسؤولياته كمشروع في السلطة، ولذلك فهو يعمل دائماً على تخليق صياغات عديدة توازن بين متطلبات العصر والدولة الحديثة من ناحية وبين أهمية الاستناد إلى شرعية الدين في ذات الوقت باعتباره المكون الأكثر بروزاً واستمرارية بين عناصر التراث الحية، فوجود هذه الأطراف الأساسية الثلاثة يمثل المسلمة الأولى التي يتفق عليها الجميع أياً كانت خيارات وتفضيلات هذا المثقف أو السياسي أو ذاك.
أما المسلمة الثانية التي يتفق عليها الجميع أيضاً ضمن هذا البارادايم المهمين فتتعلق برؤية المثقفين والسياسيين العرب لكل من هذه المشروعات الثلاثة إذ يعتقدون أن كل منها يمثل جوهراً فكرياً نقياً كاملاً تاماً لا مجال لاختلاطه أو تداخله أو تلاقيه -ولو في بعض المستويات -مع الجواهر الفكرية للمشروعات الأخرى. ويترتب على ذلك أن كل من هذه الجواهر الفكرية هي كل متكامل، إما أن تأخذه كله أو تتركه كله، وأنها من حيث مكوناتها الفكرية والسياسية غير قابلة للتفكيك بحيث لا يمكن أن تتكامل عناصر منها مع عناصر من المشروعات الفكرية الأخرى وإلا دخل المثقف أو السياسي إلى حيز التلفيق والتناقض فكرياً وإلى مجال التهاون والتفريط والانتهازية سلوكاً وموقفاً.
أما المسلمة الثالثة -المترتبة على ما سبق -فتتعلق بطبيعة العلاقة المفترضة بين هذه المشروعات - الأطراف الثلاثة، وهي علاقة أشبه بالمباراة الصفرية التي لا بد وأن تنتهي -في صورتها المثالية المرغوبة من كل طرف- بانتصار كامل لأحدهما في مقابل الهزيمة النهائية للطرفين الأخيرين.
إعادة صياغة البارادايم
ولكن هذه الطريقة في النظر للأمور أو لنقل هذا البارادايم التقليدي بدا خلال الخمسين عاماً الأخيرة وكأنه منهج غير قابل للتشغيل، إذ عجز عن فهم العديد من الظواهر وفشل في التوصل لخيارات مناسبة في العديد من المواقف، كما عجز عن تقديم الحلول الناجعة في مواجهة العديد من الأزمات الثقافية - السياسية التي واجهت مجتمعاتنا العربية طوال هذه السنوات، وهو ما مهد للظهور التدريجي لبارادايم ثقافي جديد، صاحبه بروز نوعية جديدة من المثقفين والساسة والشخصيات العامة شديدة التأثير والفاعلية في حركة مجتمعاتنا العربية المعاصرة، وهؤلاء لا يمكن تصنيفهم ببساطة تحت أحد المشروعات الثقافية -السياسية الثلاثة، فهم نهلوا من منابع فكرية متعددة، ومروا بتجارب وخبرات متباينة التوجه الفكري، ومنهم من مال نحو مشروع ثقافي بعينة خلال فترة من حياته، ثم لم يلبث أن اقترب من مشروع آخر، دون أن تشهد حياته نوعاً من القطعية النهائية مع أي من المشروعات الثقافية الأساسية التي أشرنا إليها، والأهم من ذلك أن هذا المثقف الجديد، وأياً كان الخيار الفكري الذي يميل إليه، فإنه يتسم بالاطلاع العميق على الأطروحات الثقافية والسياسية للخيارات الفكرية الأخرى.
كما أنه خبير بجذورها وتعرجاتها، وهو ما يجعله قادراً على تفهم حساسياتها وبالتالي يستطيع الاستمرار في ممارسة التفاعل معها دون الوصول إلى حافة الصدام والقطيعة... وعند هذا المعنى نكون قد وصلنا إلى نوعية جديدة للمثقف العربي الجديد الذي يعد جابر عصفور نموذجه المتحقق بلا منازع
تصحيح مسار التنوير
على الرغم من أننا لا نلمح في (نص) عصفور أو خطابه الفكري العام أي تغير فيما يتعلق بمفهوم (التنوير) الساعي إلى التطور والتقدم والحداثة من حيث جوهره الإنساني والعقلاني، إلا أن الأزمات الثقافية التي ألمت بالمجتمع المصري- ومثلها في المجتمعات العربية الأخرى- والتي كان عصفور في القلب منها، كأزمة تكفير نصر حامد أبو زيد ومحاولة قتل نجيب محفوظ ثم أزمة رواية (وليمة لأعشاب البحر) وأزمة (الروايات الثلاث) ثم أزمة الروائي صنع الله إبراهيم... كل هذه الأزمات كشفت عن رؤية ومنهج عصفور الذي يختلف عن المنهج التقليدي المعتاد الذي طبع طريقة تعامل المثقف التنويري العربي في مواجهة مثل هذه الأزمات، إذ يرفض عصفور صراحة ما يمكن تسميته (بالمراهقة اليسارية) والتي يمكن أن نجد تجسيداً لها مثلا عند بعض (مراهقي اليسار) ممن هللوا لكتاب (مفهوم النص) لنصر حامد أبو زيد باعتباره -من وجهة نظرهم - قد تجرأ على الخروج على التقليد، بينما يؤكد التحليل المتعمق الجاد لنصوص أبو زيد وخطابه الفكري عموماً أنه مسلم معتزلي من الممكن الاختلاف معه، لكن دون تكفيره، وهو الموقف الذي تفرد به عصفور مبكراً إبان هذه الأزمة الثقافية التي كان لها تأثيراً واضحاً في المحيط الثقافي العربي.
ويؤكد عصفور أنه يعود بهذه الطريقة في التناول إلى طريق التنوير الصحيح الذي كان قد بدأه أستاذه طه حسين الذي ركز على تغيير العقلية ذاتها ومن هنا أهمية المنهج وأولويته عنده - أي طه حسين - حيث كان لا ينصرف أبداً عن التركيز على مفهوم حرية العقل الإنساني وقدرته على الابتكار. ويعتقد عصفور أن هذا المنهج في التعامل مع الرأي العام يقوم أيضاً على آلية إرجاع القضايا إلى جذرها وهدفها التنويري وسؤالها الأساسي : هل من حقنا أن نفكر بحرية وندرس النصوص البشرية أي الخطاب الذي هو من صنع بشر ويعبر عن آرائهم وفهمهم للدين أم لا ندرسها؟
إعادة التفكير في الدولة
درج المثقفون التنويريون في مجتمعاتنا العربية على النظر بشك وريبة للدولة، ويرجع ذلك تاريخياً إلى طبيعة الدولة الشمولية التي سادت المنطقة منذ منتصف القرن الماضي، خاصة وأن الدولة هي التي بدأت بالشك والريبة العميقين تجاه المثقفين عموماً، كما يرجع إلى أن تجارب بعض المثقفين في المشاركة في قيادة العمل الثقافي تركت ذكريات مؤلمة شكلت صورة نمطية سلبية لفكرة مشاركة المثقفين في قيادة العمل الثقافي على وجه الإجمال، ففي مصر على سبيل المثال يتبنى الكثير من المثقفين هذا التقييم السلبي الأدوار قيادات ثقافية مثل يوسف السباعي ورشاد رشدي وحتى الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور.... وغيرهم.
ولكن رؤية عصفور للدولة الوطنية العربية المعاصرة هي رؤية مختلفة، إذ لا يراها كتلة واحدة صماء، بل يعتقد أنها تضم العديد من الميول والخلفيات والمواقف إزاء مشروع التنوير، فعلى الرغم من وجود اتجاهات داخل الدولة لا ترتاح لهذا المشروع ولممثليه، بل وقد يصل بها الأمر إلى حد معاداته، إلا أن ثمة اتجاهات أخرى - داخل الدولة أيضا - هي أقرب إلى تفهم أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف التنويري في غرس أسس العقلانية التي هي الشرط الأساسي لدخول مجتمعاتنا إلى الحداثة العربية المأمولة، وفي إحداث نوع من التوازن الثقافي والاجتماعي مع اتجاهات الجمود والتعصب والتشدد والعنف التي استشرت في المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة.
وإذا كان عصفور قد امتلك القدرة على رؤية مثل هذه الاتجاهات المنفتحة على مشروع التنوير بين أجنحة الدولة في وقت مبكرة للغاية، فإن الزمن قد أثبت صحة رؤيته التي تتزايد مصداقيتها خاصة خلال السنوات الأخيرة، حيث ظهرت أصوات من داخل الدولة تعبر عن قلقها من وصول أزمات المجتمعات العربية إلى حدود مقلقة، وارتفعت أصواتهم تنادي بالإصلاح، مما خلق هامشا أوسع لتوظيف طاقات قطاعات واسعة من المثقفين التنويريين التي كانت مهدرة لسنوات طويلة.
من ناحية أخرى لم يقتنع عصفور بأن لعبة المثقف - الدولة هي محض لعبة صورية مبسطة تفترض حتمية تنازل المثقف عن مبدأ التنوير وتحوله بالضرورة الى مجرد بوق لتبرير سياسات الدولة بمجرد قبوله المشاركة في العمل الثقافي من خلال أجهزتها، فقد انخرط عصفور في اللعبة باعتبارها لعبة معقدة، أو على الأقل أكثر تعقيدا مما كان يعتقد المثقف التنويري في إطار البارادايم التقليدي السابق، وبالتالي استنتج بأن اللعبة تفسح مجالا للتحرك والمناورة والتفاعل تمكنه من تحقيق أكبر مكاسب ممكنة لمشروعه التنويري، كما أكد على أن بعض مؤسسات الدولة، حتى مؤسساتها الأيديولوجية والثقافية (يمكن أن يتولد من داخلها أفكار تعمل في عكس اتجاه الهدف المطلوب منها) وهي اتجاهات إبداعية قد تلقى استحسان بعض الأجنحة في الدولة حال تحققها وظهور ثمارها الإيجابية مما قد يدفع لإعادة صياغة المفهوم التقليدي للدولة لمشروع التنوير، ولو على مستويات جزئية، وفي الوقت الذي يؤكد عصفور رفضه لتقديم التنازلات فإنه في ذات الوقت يؤكد على عدم الانزلاق إلى نقاط صدام نهائية يمكن أن تقوض دور المثقف وتضيع فرص جبهة التنوير في المشاركة في الجدل الثقافي الحاد الذي تمر به مجتمعاتنا الراهنة.
لقد أعتقد عصفور أن النهج التقليدي لمثقفي التنوير في مقاطعة فكرة العمل من خلال أجهزة الدولة الثقافية قد ساهم لوقت طويل في إحكام عزلة المثقف التي فرضها على نفسه أو استسلم لمحاولة فرضها عليه، كما أنها كانت تعني -على المستوى العملي- ترك مواقع القيادة والإدارة الثقافية شاغراً لتملأه إما عناصر تتسم بالجمود والتعصب أو بيروقراطية راكدة في أحسن الأحوال، وهو ما يمثل خسارة أكيدة لمشروع التنوير، ولمستقبل مجتمعاتنا على وجه العموم، ولكن عصفور يضع شروطا واضحة وقاسية تضمن نجاح هذه المشاركة وعدم انحرافها عن هدفها التنويري الأصيل، أولها أن يكون لديه مشروع تنويري يكون مرجعا لحركته ولممارسته الثقافية، وبالتالي يمكنه قبول العمل من خلال الدولة طالما يخدم ذلك مشروعه ولا يتناقض معه، وثاني هذه الشروط أن يحتفظ بمسافة يقدرها مع الحكومة بحيث لا يتطابق معها تماما، حتى لو أدت هذه المسافة للقطيعة، وثالث هذه الشروط ألا يتحول إلى أداة في يد بعض التيارات في الدولة بحيث يتخلى عن إتاحة فرص الفعل الثقافي الحر أمام كافة الاتجاهات الثقافية في إطار التعددية دون حرمان أحد منها، ورابع هذه الشروط ألا يتوقف المثقف عن لعب دور التنوير (الكلام متواصل).
من ناحية و دور النقد السياسي للأوضاع السلبية نتيجة قبوله للمنصب وهو الدور الذي لا يزال يلعبه عصفور بحيوية بالغة حتى اليوم. ولكن يبدو أن هذه المحاولة لتفسير نجاح تجربة عصفور في إدارة الثقافة من خلال الدولة لن تكتمل دون دراسة الجانب الآخر من هذه الظاهرة المهمة في تاريخنا الثقافي، ونقصد به حدوث نوع من التغير الايجابي - النسبي في بعض الأجنحة الأكثر ميلا للإصلاح داخل كيان الدولة العربية المعاصرة التي تفاعلت إيجابياً مع هذا الدور التنويري، وهو التغير الذي سمح بنشوء ظاهرة جابر عصفور واستمرارها وصعودها دون انقطاع طوال هذه السنوات، ولكن هذا مجال لحديث آخر.
...............................................مصر
F_elsaeed@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|