جابر عصفور وتحديث الخطاب النقدي د.عبد العزيز المقالح
|
من المؤكد أن الكاتب لا يستطيع بالمعاصرة وحدها أن يقيم تجربة نقدية عربية ذات أهمية وتأثير في الوجدان العربي دون أن يكون على إلمام واسع بالموروث وإنجازاته وخصائصه. كما لا يستطيع الكاتب بالموروث النقدي العربي وحده أن يكون ناقداً معاصراً وقادراً على أن يؤسس لخطاب نقدي يتناول القيم الجمالية والروحية وفق معطيات العصر وشروطه المتطورة مالم يكن على إلمام واسع بما أضافه العصر من تجليات إبداعية ونقدية ومناهج واتجاهات. وهذا ما أدركه - منذ وقت مبكر- الدكتور جابر عصفور لذلك فقد عكف في البداية دارساً وباحثاً في المعطيات النقدية العربية القديمة أنساقها ونظرياتها وتابع بعمق بالغ من خلال كتابه (مفهوم الشعر، دراسة في الموروث النقدي) عدداً من نقاد الشعر العربي القديم وجهودهم في وضع أسس النقد الأدبي العربي وصلة نقدهم بموروث الآخر كما يتجلى عند أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة العالم القديم. وتركزت دراسته العميقة عند ثلاثة من النقاد القدماء هم: (ابن طباطبا) و(قدامة بن جعفر) و(حازم القرطاجني) ودور هؤلاء في تشكيل مفهوم الشعر، ماهيته وخصائصه وصياغته ومهمته وأوزانه..الخ.
لم يتوقف جهد الدكتور جابر في دراسة الموروث النقدي عند هؤلاء النقاد بل تواصل ذلك الجهد في استقراء الجوانب الفنية والبلاغية واستنهاض الخصوصية العربية في نسيج هذه المعطيات في كتابه الأهم (الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب) لتكتمل به صورة النقد العربي القديم وإنجازاته النظرية والتطبيقية وما حققت من تطور وتأصيل لا سيما عند عبد القاهر الجرجاني الذي امتدت ظلاله الموضوعية والفنية إلى العصر الحديث. وبذلك الجهد المصحوب بالفهم الموضوعي للظروف والمؤثرات الزمنية. اقترب الدكتور جابر من مشارف العصر الحديث ليتوقف عند أهم معلم في تحديث النقد العربي من خلال كتابه (المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين) وفي هذا الكتاب تتبع دقيق وكشف وافٍ وتقص شامل لدور هذا الرائد المعاصر وتكوينه النقدي.
لقد ظهرت عشرات الكتب عن أعلام النهضة الأدبية في مصر والشام والعراق، وفي المغرب العربي، إلاَّ أن كتاب (المرايا المتجاورة) يظل فريداً في بنائه وفي لغته وأسلوبه وفي طريقة رصده لإنجازات أحد أهم أعلام النهضة الأدبية ليس في مصر وحدها وإنما في الوطن العربي بأكمله. وكانت المكتبة العربية تنتظر كتاباً كهذا يكشف مكامن القوة والضعف في تجربة الرواد من خلال أهم أعلامهم بلغة عالية وموضوعية عميقة وأسلوب فاتن يذكر بطه حسين نفسه لكنه يتحرر من لوازمه وبلاغته المتعمدة.
وكما توقف جابر في هذا الكتاب طويلاً عندما مثلته (المرآة) لدى طه حسين من دلالات متغايرة، واقعية ورمزية ونفسية تنبثق من فقده البصر ومن انعكاس ذلك في أسلوبه.. فقد توقف كذلك لدى إصرار العميد على فنية لغة النقد الأدبي. ومن ذلك قوله: (لقد تعلم طه حسين من لانسون أن العمل الأدبي يختلف عن الوثيقة بما تثيره صياغته من استجابة عاطفية وجمالية، كما تعلم منه أن على الناقد أن يتوقف إزاء هذه الصياغة معتمداً على ذوقه فليس هناك مبادئ صارمة لدراسة كل عمل أدبي، فالمهم التوقف عند صياغة هذا العمل والاستجابة إلى الهزة التي تحدثها في الناقد أو الكشف من خلال هذه الهزة عن منحى خاص في الصياغة. تم ربط هذا المنحى بروح الكاتب أو حياة الأفراد. وبذلك يصبح النقد عملية تذوق لكل كاتب بنسبة ما في أسلوبه من الكمال). (ص49)
هكذا ومنذ عنوان الكتاب وهو (المرايا المتجاورة) وحتى آخر سطر فيه يسعى الدكتور جابر ليؤسس تطبيقيات لخطاب نقدي حديث يقوم على جماليات اللغة الأدبية من دون أن يفقد النقد موضوعيته أو قدرته على التحليل العلمي وليكتسب خصوصيته وغناه من اتساع المعطيات الثقافية التي أفاد منها الناقد وجمع فيها بين قتل القديم بحثاً كما تشهد على ذلك أطروحاته المشار إليها سابقاً ثم استيعابه لأهم طروحات الجديد من المدارس والمناهج النقدية وهو ما تشهد عليه أيضاً كتاباته النقدية وترجماته التي أضافت جديداً ينفتح على تساؤلات زمنية ومكانية مختلفة يتولد عنها تثاقف أدبي ونقدي يحرر لغة النقد من الركاكة والتقليد الذي هو في حقيقة الأمر ناتج عن الانغلاقية الثقافية التي كان طه حسين ونفر من الرواد قد بدأوا في كسر حلقاتها الجامدة، في حين بدأ جابر عصفور وزملاؤه من النقاد الشبان في سبعينيات القرن الماضي بمراجعة تجربة هؤلاء الرواد لتجاوزها. ولم يكن كتاب (المرايا المتجاورة) وهو كتاب في نقد النقد سوى مراجعة واعية وذكية لدور الرواد ممثلاً في دور الأب الروحي وداعية التغيير طه حسين لتجاوزه منهجياً بعد الاستفادة منه والتطلع إلى بناء مشروع نقدي أكثر تحديثاً وانسجاماً مع روح العصر وتحولاته.
لا أزعم أن أسلوب جابر عصفور يتشابه مع أسلوب طه حسين فشتان بين الأسلوبين، لكن الخطوط العامة -أو إذا شئنا قلنا الخطوط العريضة - تتلاقى من خلال حرص الناقدين على اختيار اللغة الأدبية للنقد بدلاً عن اللغة الجافة التي يستخدمها أساتذة الاجتماع والاقتصاد والقانون، والتي استأثرت -أو كادت- بلغة النقد الأدبي لدى بعض الأكاديميين من النقاد الذين كانت صلاتهم بعلوم الفيزياء والكيمياء أكثر من صلاتهم بلغة الشعر والأدب. والذين يستطيعون الحديث عن قطيعة حقيقية بين جابر عصفور وطه حسين في المنهج والنظر الموضوعي إلى الأعمال الإبداعية المنقودة لا يستطيعون أن يتحدثوا عن قطيعة بين الاثنين في فنية النقد وجمالية الأسلوب في الخطاب النقدي.
ولا نحسب أن تحديث النقد الأدبي العربي قد اقتصر على المنهجية الحديثة وتأصيل المفاهيم والمصطلحات وإنما تعدى ذلك كله إلى تطوير الأسلوب وإعادة صياغة آليات التعبير بما يتناسب مع ارتقاء النص الأدبي وجماليات بنيته. وهذه الإشارة تذكرني بحديث كان الأستاذ جمال بن الشيخ قد تحدث به -أواخر الثمانينيات من القرن الماضي- في جلسة ضمت عدداً من الأكاديميين الشبان في جامعة صنعاء عن لغة النقد الأدبي كما هي في الفرنسية والعربية ويعجب للفرق الشاسع بينهما، فالنقد الأدبي في اللغة الفرنسية لا يفقد جمالياته ولا يتخلى عن أسلوبه الأدبي الجميل بينما يبدو في اللغة العربية جامداً يتوكأ على عكاز (العلمية) حتى ليكاد يخلو من أية لمعة فنية ترقى بالمبنى وتساعد المعنى على الوصول إلى وجدان القارئ سيما عندما يتناول الناقد الأعمال الإبداعية شعرية أو سردية وما تنطوي عليه من جمالية التعبير وشفافية اللغة.
أتذكر ذلك الحديث اللافت لابن الشيخ كلما قرأت لواحد أو أكثر من النقاد الذين أحب لغتهم وطريقة تلقيهم للأعمال الإبداعية وفي مقدمتهم جابر عصفور الذي حرص منذ بداياته النقدية على استخدام اللغة الأدبية التي من شأنها أن تشجع القارئ على المتابعة، وفي كتاب (المرايا المتجاورة) ?كما سبقت الإشارة- يتجسد هذا الأسلوب بموضوعيته وجمالياته ويتأكد في تتبعه الدقيق لمصادر فنية النقد الأدبي عند طه حسين إلى أن يصل إلى رأيه الصريح الواضح الذي يرى فيه أن (النقد الأدبي لا يمكن أن يصبح علماً أو أن يحاكي أي علم من العلوم. وإنما عليه أن يستقل بمنهجه. ويربط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأدب الذي يدرسه. وذلك لكي يظل النقد الأدبي فناً). (ص49)
ويمكن لنا هنا أن نكتشف شيئاً من التوافق في الرؤية بين طه حسين وجابر عصفور من خلال عرضه الأخير للأدلة القاطعة التي أوردها الأول واقتناع جابر عصفور ضمنياً بأهمية أن يتم النظر إلى النقد الأدبي باعتباره فناً أو قريباً من الفن واقتناعه بأن تكون لغة النقد الأدبي محتفظة بقدر من جمالية التعبير تبتعد بها عن اللغة العلمية الصرف، ويمكن لنا كذلك أن نقول إن كلاً من طه حسين وجابر عصفور جاءا إلى النقد الأدبي من الشعر. فطه حسين حاول الشعر في بداية حياته الأدبية وله منه ما يعد ديواناً كاملاً، أما جابر عصفور فقد بدأ كتابة الشعر وهو طالب في الثانوية وأنجز عدداً من القصائد الجيدة، وعندما التحق بالجامعة ابتعد عن هذا الفن الجميل، وكما علمت منه أنه لم يعد إليه ثانية واكتفى بالكتابة عن الشعر وعن بقية الفنون القولية بلغة فيها من أثر الشعر رهافته وعذوبته الكثير، وهو ما يجذب القارئ ويبعث في نفسه حالة من الانتشاء. ومعلوم أن الدكتور جابر التقى في أثناء دراسته الجامعية بعدد من الشعراء البارزين أمثال صلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي وغيرهما وأقام معهم صلات حميمة، وتبين له من تلك الصلات أنه لكي يتفوق على هؤلاء أو يصل إلى مستواهم الشعري يحتاج إلى أن يهجر حياته الأكاديمية ويتفرغ للشعر ويعطيه الكثير من وقته وجهده وهو ما لم يكن مستعداً له، وللتضحية بحياته الأكاديمية وقد وضع قدميه على عتبتها بامتياز جعله مؤهلاً لخوض معركة الماجستير والدكتوراه بامتياز أيضاً.
وهذه الإشارات العابرة إلى العلاقة القديمة بين جابر عصفور والشعر تمهد للحديث عن جماليات خطابه النقدي الذي يظل من أكثر الخطابات النقدية الحديثة موضوعية وابتعاداً عن استخدام الألفاظ الشعرية والتعابير الإنشائية مع احتفاظه بجاذبية الأسلوب وحيوية اللغة. وعندما بدأ جابر الكتابة لبعض المجلات والصحف اليومية أشفقت على أسلوبه البديع ونسقه النقدي المتميز أن يتأثر سلباً، لكن التجربة أكدت لي ولآخرين أن الكاتب المتمكن قادر على أن يحافظ على مستواه اللغوي والتعبيري مهما كان مستوى المطبوعة التي ينشر فيها.
وإذا كانت سبعينيات القرن الماضي قد حظيت بجماعة من النقاد الشبان في مصر وغيرها من الأقطار العربية شكلت انعطافة حقيقية في مستوى الرؤية النقدية وعملت على قلب المعادلة التي كانت سائدة في نقد الخمسينيات حيث لم يعد مضمون النص بالنسبة لها جوهر الكتابة الإبداعية كما تخلت عن الحديث الممل والمتكرر عن ثنائية الشكل والمضمون، وبدأت تنظر إلى النص الأدبي بوصفه تعبيراً أولاً ثم يأتي الاهتمام بما يحفل به محتواه من أفكار ورؤى وأحاسيس وخلجات ثانياً، أقول إذا كان ذلك قد تم ? وهو قد تم بالفعل - فإن جابر عصفور ? دون مبالغة - ظل يعد في طليعة هؤلاء النقاد الذين كانوا شباناً ثم أضحوا كهولاً. ولعله الوحيد بين أبناء جيله الذي يمكن القول عنه بأنه صاحب مشروع نقدي مكتمل وذلك من خلال محاورته الجادة والعميقة مع الموروث النقدي العربي القديم وتمثله للمدارس والمناهج النقدية الجديدة، ومن خلال أسئلته العديدة التي بثها في كتاباته النقدية المنشور منها في كتب وغير المنشور، وإدراكه منذ البداية أهمية أن يتعانق التعبير الجمالي مع واقعية المضمون أو خياليته، وأن يكون النص الأدبي مستكملاً حقيقته الفنية قبل حقيقته المعنوية، وذلك أن المحتوى العظيم يضيع ويتلاشى عندما يتم التعبير عنه بأسلوب ضعيف، ويمكن لنا أن نقول المعنى نفسه في النقد الأدبي الذي يعبر عن النص العظيم بأسلوب ركيك. وبهذا لم يعد النص النقدي الجديد كالنص الأدبي القديم انعكاساً للأوضاع الاجتماعية السائدة بل صار نتاج فضاءات ثقافية وتعالقات معرفية تزداد اتساعاً كلما زاد الناقد ثقافة ووعياً بمستجدات الحقل الأدبي.
ويظل الحديث عن جابر ناقصاً إذا لم تتم الإشارة إلى كتاباته التنويرية الداعمة للفكر النقدي والهادفة إلى تحرير روح الإنسان العربي وعقله من الانغلاق والتعصب. وقبل هذا وبعده، سيظل النقد الأدبي العربي المعاصر مديناً له لكونه أول من فتح باب هذا النقد لاستيعاب مصطلح القناع بمفاهيمه ومعطياته الفنية المشحونة بالخصب والثراء.
أخيراً، لقد تميز جابر عصفور في كل ما كتب وترجم بمنهجه العلمي الواضح وأسلوبه المشرق الجميل، ثم بقدرته على الملاحظة المدهشة والمراجعة العميقة.
...............................................اليمن
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|