جابر عصفور وطليعية الرواية العربية يمنى العيد
|
ما زال بعض النقّاد العرب، وغير العرب، حتى اليوم، يرى الرواية العربية بمقياس الرواية الغربيَّة الذي له علاقته بشروط نشأة هذه الرواية الغربيَّة وأحوال تطورها. ومثل هذا المقياس يرتكز إلى مبدأ المحاكاة - محاكاة الرواية العربية بالرواية الغربية - ولا يأخذ بعين الاعتبار الشروط التاريخية والاجتماعية - الثقافية المختلفة لولادة الرواية العربيَّة الحديثة. وفي اعتقادي أنَّ ما قدَّمه د. جابر عصفور من أبحاث قصدَ بها نقد مبدأ المحاكاة وهذا المقياس الخارجي، سعياً منه لبلورة مقياسٍ داخليّ يراعي الخصوصيَّة التاريخيَّة والاجتماعيَّة - الثقافيَّة لنشأة الرواية العربيَّة، هو من أهم ما قدَّمته الدراسات النقديَّة العربيَّة في هذا الصدد. فما هو هذا المقياس الداخلي وما هي أهميَّته؟
1- المقياس الداخلي
يتحدَّد هذا المقياس الداخلي بمفهومي المجاورة والانقسام اللذين بلورهما د. جابر عصفور، كما سنوضِّح، وتتمثل أهميَّته في نهجه البحثي المستند إلى التحليل العلائقي، أي الذي يبحث عن المعنى القيمي في العلاقة، ويرى العلاقة في الحركة المتحقِّقة بين المستويات المجتمعيَّة، وينظر في هذه المستويات بصفتها التكوينيَّة؛ أي بصفتها الزمنيَّة - التاريخيَّة. على أساس من هذا النهج التحليلي العلائقي، يبحث د. جابر عصفور في كيفية انتقال المدينة، القاهرة تحديداً، إلى حداثتها العمرانيَّة، وتشكُّل طبقات المجتمع وفئات الناس فيها، وذلك على قاعدة الانقسام والتعدُّد، والمجاورة بين القديم والحديث، بين الموروث والوافد.
يميل معنى المجاورة، في بحث د. جابر عصفور، إلى أن يكون مفهوماً للبحث في زمن النهضة وفي نشأة الرواية العربيَّة: فهي، أي المجاورة، أساس في شكل الحراك الاقتصادي والاجتماعي - الثقافي؛ ذلك أنها مجاورة بين الأضداد، أو بين ما يتصالح ويتعادى؛ أي أنها نوع من الازدواج يسم المدينة العربيَّة المنتقلة إلى حداثتها وتنفرد به، وهو ما يجعل حداثتها مختلفة عن حداثة الغرب، لا تحاكيها، وإن كانت تتشكَّل بعلاقة، تجاورية، معها.
تفضي المجاورة إلى نوع من الانقسام التعدُّدي؛ فالمدينة لا تنتقل كلُّها إلى الحداثة. لا تحلّ مدينة حديثة مكان مدينة قديمة، بل تنقسم المدينة على نفسها... كل شيء في المدينة المتحوِّلة ينقسم على نفسه: المكان، والناس، ومراكز الثقافة.
تنقسم الطبقة الوسطى المتشكِّلة حداثيّاً إلى فئات متغايرة في الأصول، وفي الموقع الاجتماعي والوظيفي النهضوي، وفي التزوُّد المعرفي، وبالتالي في الوعي والرؤى والرغبات.
تنقسم هذه الطبقة الوسطى إلى: شيخ معمَّم، وأفندي مطربش - حسب تعبير الباحث - وتنقسم الأفندية المطربشة إلى:
* أفندية تقليدية قريبة بتعلُّمها من أبناء الأرستقراطية التركيَّة القديمة، ومنحازة إلى فن الشعر.
* أفندية لها أصول محليَّة هي، بتعلُّمها المدني، امتلكت وعياً أكثر حداثة. بهؤلاء الأفندية، وبوعيهم الحداثي يرتبط فن الرواية العربيَّة في نشأته.
يوازي انقسام الطبقة على نفسها انقسام المدينة على نفسها. وكما تنتقل المدينة إلى حداثتها، تتقدَّم هذه الفئات من الطبقة الوسطى ليجسِّد وعيها الحداثي الصاعد حداثة الواقع المادي المديني؛ فالمدينة فضاء، والرواية التي هي وليدة هذه المدينة ومداها الثقافي الواعد، هي في الآن نفسه، الصوت الإبداعي لهذه الفئات من الطبقة الوسطى، كما يرى الباحث.
انقسام ومجاورة يؤديان إلى خلق مناطق من التماس تتداخل في مساحتها الاجتماعية والثقافية الحدود والملامح؛ ما يجعل حركة التغيُّر الحداثي تتبدَّى مؤرقة؛ فلا هي شرقيَّة ولا هي غربيَّة، بل هي حركة قائمة على المجاورة بين الأضداد: الشرقي والغربي، القديم والحديث، الموروث والوافد، خصوصاً في مناطق التماس حيث يشتدُّ التداخل وتندفع حركته.
يشكِّل مفهوما الانقسام والمجاورة، وباعتبار طابعهما التداخلي واندفاع حركة هذا التداخل في مناطق التماس، الشرط التاريخي المتعين والخاص، في نظر الباحث، للواقع الاجتماعي الثقافي الذي وُلدت فيه الرواية العربيَّة الحديثة؛ ففي مناطق التماس، وفي لحظة اندفاع حركة التداخل بين الأضداد، لا يعود الناتج منتسباً إلى طرف، بل إلى هذا الاندفاع، بما هو ديناميَّة حركيَّة، مناط أمرها (كمكوَّن)، ووجهتها (كهدف!)، بوعي الفئة الصاعدة من الطبقة الوسطى، الفئة المستنيرة، التي يشكل فن الرواية معادلها الإبداعي، حسب تعبير الباحث.
يؤكد هذا المعادل الإبداعي، أي الرواية، شرطه الاجتماعي بما هو شرط مقترن بعوامل صعود هذه الفئة الطليعيَّة من الطبقة الوسطى (فئة الأفندية التي لها أصول محليَّة والتي امتلكت، بتعلُّمها المدني، وعياً أكثر حداثة من وعي فئة الأفندية التقليدية). وبالمقابل يؤكد هذا الفن الروائي طليعيته العربيَّة. وعليه، لا يمكن اعتبار الرواية العربيَّة الحديثة، بالنظر إلى هذا الشرط التاريخي الذي ميَّز نشأتها، موروثاً عربيّاً أو محاكاة للرواية الغربيَّة؛ فهي ليست استمراراً يتطور ضمن زمنه الماضوي العربي، كما أنها ليست استعارة منقولة عن الغرب، بل هي المختلف الموسوم بعوامل نشأته الخاصة، عوامل زمن النهضة العربيَّة، الزمن المنتمي، بالوعي الذي هو له، إلى الطليعة العربيَّة النهضوية.
من هذا المنطلق النظري، المستند مفهوميّاً إلى الواقع الاجتماعي - الثقافي، وحركته المحكومة بشرطها التاريخي النهضوي، يرى الباحث نشأة الرواية العربيَّة، كما يرى تطورها باتجاه حداثتها الخاصة بها والمميزة لها، وهي بذلك، أي هذه الرواية العربيَّة، تناظر الرواية الغربيَّة، على قاعدة الاختلاف، ولا تتبع لها أو تحاكيها؛ ذلك أنَّ التناظر هو من مستلزمات المجاورة وما ترتَّب عليها من تداخل شكَّل الصوت المائز للوعي الثقافي والإبداع الروائي.
2- أهمية المقياس الداخلي
تبرز أهمية هذا المقياس الداخلي في ما يلي:
أولاً: في إنتاج د. عصفور لمفهوم المجاورة على قاعدة الانقسام والتداخل وتمييز حداثة المدينة العربيَّة - القاهرة - ؛ وبالتالي، إحالة هذا المقياس الداخلي إلى مستوى ثقافي موصوف، في بحثه، بطابع خاص يتجاور فيه الموروث والمتداول؛ أي السرديات القادمة من الماضي والمرويات الشفوية في المجالس الشعبية (المقاهي..) والتعبيرات التي تصوغها أحاديث الناس ومنطوقاتهم اليوميَّة، وهي؛ أي هذه السرديات والمرويات، على تنوُّعها وتعددها مما يمكن اعتباره مرجعيَّة هامة للرواية العربية في نشأتها وتطورها؛ وبذلك أقام الباحث عامل الاختلاف بين الثقافة المعرفيَّة التي شكَّلت، بهويتها المعرفية هذه، مكوِّناً للرواية الغربية، وبين الثقافة العربيَّة، ثقافة السرديات والمرويَّات الشفويَّة الشعبيَّة، التي شكَّلت، بهويتها المختلفة هذه مكوِّناً، مغايراً، للرواية العربيَّة. هكذا... ففي حين اعتبر ميخائيل باختين أنَّ تعدُّد الأصوات العائد إلى المستويات المعرفيَّة في الثقافة الغربيَّة عاملاً مكوِّناً ومحدِّداً أساسياً لهذا النوع الأدبي النثري الذي هو الرواية.. قدَّم جابر عصفور في أبحاثه ما يجعلنا نعتبر تنوُّع السرديات والمرويات الشفويَّة الشعبيَّة عاملاً مكوِّناً، مختلفاً، لنشأة الرواية العربيَّة وتطورها.
ولعلَّ روايات نجيب محفوظ، وبشكل خاص الثلاثية، تقدِّم برهاناً ساطعاً على رواية عربيَّة، هي وإن كانت تتبنَّى بقواعد الجنس الروائي العامة (قواعد حبكة الرواية الواقعية)، إلاَّ أنَّ عالمها المتخيّل يتميَّز بأصوات الشخصيات فيه. هذه الأصوات التي تتعدَّد وتتمايز بحكم انتمائها إلى واقعها الاجتماعي المعيش وتعبيراته اللسانيَّة - الثقافيَّة المختلفة والمتنوعة في اختلافها؛ أي بحكم مرجعيتها الحيَّة والخاصة.
ثانياً: في تحرير الرواية العربيَّة من مقياس المحاكاة، وبالتالي من تقويمها بمقياس خارجي أدَّى لدى البعض، خاصة في مراحل النشأة وبدايات التطور، إلى الحطِّ من قيمة الرواية العربيَّة؛ وذلك باعتبارها مجرد قصص للتسلية والترفيه، (يحيى حقي وعبدالمحسن بدر ومحمد يوسف نجم في كتابه: القصة في الأدب العربي الحديث)، أو نسبتها إلى الفن الزائف، غير الحقيقي (محمود تيمور في كتابه: دراسات في القصة والمسرح).
ثالثاً: في النظر إلى الرواية من منظور يرى القيمة الجمالية التي تحققها الرواية، لا وفق مقياس خارجي عنها، بل باعتبار هذه القيمة الجمالية وجهاً آخر من القيمة الاجتماعية الصاعدة في مجتمعها (مجتمع الرواية)، وهو ما يكسب الرواية العربيَّة إمكانية تفردها دون عزلها، وخصوصيتها دون غربتها؛ وذلك باعتبارها إبداعاً يتحقَّق وفق شرطه التاريخي ومجاله الاجتماعي - الثقافي في حراكه الخاص.
ملاحظة: أستند في هذا المقال، بشكل أساسي، إلى كتاب د. جابر عصفور: زمن الرواية الصادر عن: دار المدى، دمشق 1999، وعلى بحثه الذي قدَّمه تحت عنوان: ابتداء زمن الرواية.. ملاحظات منهجية، في مهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، ندوة الرواية العربية.. ممكنات السرد، من 11 ـ 13 ديسمبر 2004، الكويت.
.....................................................................سورية
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|