كثيراً ما يحلو لبعض المثقفين والإعلاميين المخضرمين لدينا مقارنة مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً «الفيسبوك» (اشهرها على الإطلاق) بمقهى «ستاربكس» حين يريدون الثناء على الواقع الحميم في مقابل الافتراض البارد، شخصياً لا أعرف لماذا ستاربكس تحديداً هو المثال الجيد لديهم لهكذا مقارنه ولكن أعلم أيضاً أنها مقارنة مغلوطة منطقياً وتشي بجهل كبير تجاه هذه الآليه الحديثة للتواصل الاجتماعي، لأنهم حين يبينون فضائل الواقع «الستاربكسي» الإنساني من حيث التلاقي المباشر ورائحة المكان المفعم بالقهوة، فهم يعتقدون أنهم بذلك يحاولون مواجهة محاولات افتراضية متخفية وبلا رائحة تريد أن تقوم مقام هذه اللقاءات الإنسانية المباشرة، وفي هذا الافتراض تبسيط واضح وتسطيح لنقلة عظيمة وحديثة على مستوى التواصل الاجتماعي، بدأ العالم ممثلاً في جامعاته ومراكز أبحاثه المتقدمة في إعداد العدة لها علمياً ونفسياً، اجتماعياً واقتصادياً.
وهم أيضا بهذه المقارنة يتغافلون عن الوضع الحاصل حالياً في المقاهي أو يجملونه من أجل الانتصار لطرفهم المفضل لأن المتأمل لأوضاع الناس فيها يجد القليل فقط من يقضون وقتهم في الحديث مباشرة مقارنة بالأشخاص الذين يستخدمون أجهزتهم المحمولة للتحادث أو التصفح، شخصياً لا أميل لأخذ هذه الصورة الأخيرة بكثير من التشاؤم بل أعتبرها جزءاً من افتراض واقعي لا بد منه ومن التعامل معه وبالتالي مواجهة الواقع بإبداع يحاكي الإبداع الذي صرف الناس عنه بدلاً من التباكي عليه، وهنا أتذكر تجربة أحد المقاهي الجامعية الألمانية فبعد فترة من الصمت المطبق على هذا المقهى وصل صاحب المقهى لفكرة مفادها أن يترك على أكواب القهوة الورقية مساحات صغيرة فارغه للكتابة تشابه الحالة أو المساحة الفارغة للكتابة والموجودة على صفحة الفيسبوك أو تويتر ثم عرض على الطلاب أن يكتب كل منهم ما يراه مناسباً ومعبراً عن حالته ويحتفظ بالكوب لنفسه أو يهديه بما يحويه من قهوة ساخنة لأصدقائه وحينها فقط أثارت هذه الكتابات البسيطة الكثيرمن الضحكات والأحاديث المطولة بين الطلاب.
وهذا يعيدنا لميزة التواصل الاجتماعي الجديد مقارنة بالتواصل التقليدي وهي أن محوره المباشر أفكار وتوجهات ومعارف (جاهزة لترجمتها كخبرات) وليس الأشخاص سواء كانوا بأسماء مستعارة أم لم يكونوا، معروفين لدينا أم ليسوا معروفين لأن صيغة التعارف الأهم في هذا الفضاء ليست معرفة الآخرين الشخصية بقدر ما هي معرفة ما يعرفون ومشاركتهم ما نعرف، وهذا تحديداً ما لم يستوعبه الكثير لدينا بعد، وبرغم ذلك فإن الفيسبوك مثلاً ما يزال من جهة المعلومات الشخصية يحاول إيجاد مجتمع شفاف بقدر الإمكان ونجح لحد ما مقارنة بما سبقه من مواقع ومنتديات، ومع ذلك لم يتوقف ولا يجب أن يتوقف عند هذه المسألة لأن ميزة الأفكار ووفرة المعلومات وحرية تداولها تبقى هي أكثر ما يميزه عن «ستاربكس» المحدود بمكانه وزمانه والمحدود بحدود قدراتنا المادية والنفسية على التواصل مع أشخاص بعينهم في وقت لا حدود فيه لقدراتنا الذهنية على التواصل معلوماتياً ومعرفياً على مستوى الأفكار، وبالتالي فما يضبط الموضوع ويحكمه ابتداءً هو نوعية الأفكار إضافة لمساحة الاختيار المتاحة والمرنة سلفاً فنحن الآن لسنا ملزمين بأصدقاء العائلة أو المدرسة أوالعمل فقط بل سيكون لدينا الخيارالأكبر لاختيار الأصدقاء بناء على الذائقة المشتركة فكرياً ومعرفياً ومن ثم استمرار هذا الخيار إما بتوثيق العلاقة شخصياً لتمتد وتصبح علاقة «ستاربوكسية « ذات طعم ورائحة أو الاكتفاء بها «فيسبوكياً» أو حتى رفض العلاقتين معاً.
خلاصة الأمر لابد من معرفة الفروقات جيداً والإلمام بها أولاً قبل عقد المقارنات فما يحدث ليس عوالم جديدة فقط يمكن النظر إليها بشكل منفصل عن واقعها الذي صنعها ومن ثم المقارنة بينهم بكل أريحية وموثوقية بل هي مسألة تكاملية ومعقدة تماماً حيث إنها من جهة هي امتداد للواقع الحقيقي ومن جهة أخرى فإن الآلية الاجتماعية الجديدة التي تحكمها ما هي إلا إحدى أهم ممارسات الحرية حيث تزداد مساحة الخيارات وبالتالي نكون مطالبين بقرارات أكثر وبمسؤوليه أكبر وهذا يعني أننا أصبحنا ملزمين بالإعداد التربوي والتنظيمي الجيد لمثل هذه العوالم سواء على مستوى الثقة العامة أو على مستوى الرقابة الذاتية لأفراد قادرين على اتخاذ قراراتهم وتحمل مسؤولياتها بعيداً عن محاولات التشكيك ونزع الثقة وبعيداً عن التواصي والإغراق في مزيد من الرقابة الجماعية الوصائية وما قد تحمله من تخوف وتجنب وانغلاق.
- جدة