كلما ازدادت الحياةُ خطورةً ازداد الشعرُ حضوراً..
وقد قيلت روايات متعددة عن أول شعر عرفه الإنسان، وكلها تخمينات لا أحد يستطيع أن يجزم بصحة رواية دون أخرى، فسواء كانت قصيدة لأبينا آدم عليه السلام في رثاء ابنه القتيل على يد ابنه القاتل، أو هي ملحمة جلجامش في عذاباته بين الفناء والبحث عن خلود، أو هي إلياذة هوميروس في وصف حرب طروادة، أو غير تلك الأساطير المدونة (شعراً) تقبله العاطفة ويحار فيه العقل..
يظلّ القاسم المشترك بين كلّ تلك الروايات يكمن في أسباب قول الشعر المتمثلة في (خطر) كالموت، ولم يكن أبداً من أجل مديح أو غزل أو أفراح..
الشعر خطورةٌ وحزنٌ، وأول ما وصل إلينا موثقاً من (شعر عربيّ) هو شعر الزير سالم في رثاء أخيه كليب، وقد قصّد فيه القصيدة فجعلها سبعة أبيات، ثم بكائيات الملك الضلّيل امرئ القيس، الذي أطال القصيدة فجعلها معلقة..
ثم امتدت القصائد العربية واستمرّ الشعر يتمدد في الحياة بأنماط متفرّعة، وكان لشعر (الصعاليك) الدور الأكثر تأكيداً على أن الشعر منجزٌ فرديّ لا يعتمد إلاّ على نفسه وليس بحاجة إلى دعم من وجهاء المجتمع..
ظلّ الشعرُ يتوسع في مكانته حتى أصبح مقننا في العصر (الذهبيّ) للحكم العباسيّ الذي وصلت الحياة فيه إلى ذروة الخطورة فانتعش الشعرُ كذلك وكوّن عصره الذهبيّ الممتد توثيقاً فأصبح مرجعية للغة والنحو، وصار لأوزانه وقوافيه حقلٌ من العلوم..
أمّا في عصرنا الحديث، العصر الذي وصل فيه كلّ شيء إلى أقصى ذروته، ففي الثورات - شعبية كانت أو عسكرية! - تجد الشعر يفتتحها ويعممها ويشرّع لها ويجعلها فرضاً ومستقرّاً، ثم يجعل منها الفخر والاعتزاز..
وفي الانهيارات، تجد في الشعر العزاء والتماسك والصلابة، وقد تجد فيه أطواق نجاة - ولو نفسية - تصل بك أحياناً إلى ابتكار طريقة تجعل من السقوط صعوداً، ومن الإحباط عزيمة، ومن اليأس أملاً متجدداً لا تحده حدود ولا تمنعه قيود ولا يتوقف عند صعب..
وفي الأحزان.. هو الشعرُ المواسي والعطوف.
وفي نشوة الانتصارات.. يحضرك الشعرُ مهنئاً ويبارك فيك فرحة تستحقها – أو هكذا يوهمك - ويبرر جدارتك بها.. وإن لم تكن كذلك!
فمتى يغيب الشعرُ ويخفت صداه وينتهي دوره؟
ذلك ما لا يحدث إلاّ في حالة (البرود) الإنساني، وتحوّل أعصاب الرجال وأصلابهم إلى مجرد أوعية لآلات تعمل بميكانيكية مبرمجة وتسير على خطوط مرسومة لا ثورات فيها ولا انهيارات ولا أحزان ولا نشوة أو فرحة أو انتصار..
وتلك الحالة لن تحدث طالما أن دم الإنسان أحمر، ومستقبله في علم الغيب، وطرقاته تمتد وتلتوي بأشكال مفاجئة، وروحه لا يزال علمها عند الله..
ولكنّ ما يحدث فقط، هو مجرد (فتور) لم يصل ولن يصل إلى (البرود) الذي لا تصله الأشياء الحية إلاّ بعد موتها.. فالشعرُ حيٌّ، وقارئ الشعر حيٌّ، غير أن الحياة الفاترة - عند الشعر وقارئه - تجعل من الركون والتسليم والاستسلام ساتراً يحجب كل خطورة عن الحياة، وربما يحجب الحياة نفسها!
وهكذا يظلّ الشعر (والحقيقيّ منه أعني) حاضراً في كل حياةٍ خطرةٍ، وغائباً عن كل اعتيادٍ يحسبه المعتادُ حياة..!
* * *
دعيني أجرّب هذا الكلامَ
قليلاً..
- كلامٌ هو الشعرُ؟!
- أقسمُ بالله: لا..
فالشعرُ ضربٌ من المعجزات
وبالشعر قاربتُ معنى الحياة
- بماذا انتهيت؟
- انتهيتُ بجرحيَ
ثم نزفتُ، تعبتُ، انثنيتُ، انحنيت
ثم ارتميت
ثم ارتضيتُ ارتمائيَ حتى
هو الشعرُ أوقفني.. فانتشيت!
الرياض
ffnff69@hotmail.com