إنَّ مَنْ يعرف ما يبذله الدارسون في مراحل الدراسات العليا من بحث ومثابرة وجهد وسهر ليالٍ وتنقيب في بطون الكتب والمصادر في المكتبات العامة والخاصة، وما يبذله أولئك الحاملون بكفاءة ومصداقية تلك المؤهلات العالية في العلوم والآداب.. يدرك مدى أحقية هذه الفئة المتميزة التي تحترم العِلْم وتُقدِّر رسالته، وترى أن العلم غاية لا وسيلة للوجاهة وجمع المال. هذه الفئة من العلماء الأجلاء هم الذين يحصلون على الرأي الجماعي في حَمْل الألقاب، وهم الذين لا يضعون هذه الألقاب أمام أسمائهم إلا في الحالات الأكاديمية أو الرسمية، ثم هم بعد ذلك في غاية التواضع عندما يُعرِّفون بأنفسهم أو يكتبون.
أما هذه الحمى (الدالية) التي تجتاح البلاد، وبخاصة دول النفط، فإن خطرها قد تجاوز كل الحدود بعد أن فاقت أعداد حملتها في شتّى فروع العِلْم، ومنها العلوم الطبيعية التي تتطلب مهارات وتقنيات في مجالاتها المختلفة، حدَّ المعقول. وكم يضع الإنسان يده على قلبه حينما يسمع أن أساتذة في جامعاتنا زاولوا مهنة التدريس أعواماً ولم يُعْرَف بزيف مؤهلاتهم العليا إلا بعد سنوات، وكذا في حقل الطب والعلوم الطبية المساعدة والصيدلة.
إن هذه الحمى (الدالية) ما كانت لتتكاثر وتنمو لولا النظرة الخاطئة بأن مَنْ يحمل الشهادات العليا هو الأجدر والأكثر فَهْما وعِلْماً وإدراكاً لقيادة المراكز الإدارية والفكرية والعلمية في البلاد، وأنَّ مَنْ عداهم مهما كانت قدراتهم الثقافية والإدارية لا يكونون كمن يحمل ذلك المؤهل مهما كان إبداعهم. هذا هو الخلل الاجتماعي الذي توارثه الأبناء عن الآباء، عندما كان من يفد إلى البلاد مَنْ يلبس بنطالاً ومن أصحاب البشرة الحمراء أو البيضاء فيقال عنه إنه دكتور أو مهندس، ويأخذ الصدارة في المجالس، ويتم الإصغاء إلى حديثه، وينال التزكية من الجميع!
هذه الحمى (الدالية) امتدت حتى رغب مَنْ يزاول مهنة الطب أياً كان مؤهله أن توضع أمام اسمه، وكذا أصحاب المهن من الفنانين والأدباء والشعراء، ولا يُقبل بأن يُدعى بالطبيب أو الفنان أو الشاعر أو الكاتب... فتشابهت هذه (الدالية)، وتداخلت مع غيرها، وإلا فماذا يضيرنا أن نقول معرِّفين بالملحن والمطرب والموسيقي بالفنان؟ والحال كذلك مع الشاعر والكاتب والروائي والقاص والمترجم بالأديب أو الشاعر؛ لكي لا يختلط الأمر، ويندمج الخيط الأبيض مع الخيط الأسود.
لا شك أن إعادة الأمور إلى نصابها وتسمية الأشياء بأسمائها وتعرية الزيف وكل مَنْ يسيء إلى العلم والأدب أمرٌ يحتاج إلى وقفة قوية وجادة وحازمة صارمة، ووعي لدى كل الناس، وتربية أخلاقية تربَّى عليها المجتمعات منذ بداية النشء في البيت والمدرسة.
وإن معالجة الأمر وسَنّ القوانين باكراً خير من أن يترك ذلك لعامل الزمن وظهور الوعي الاجتماعي الذي لن يكون بأحسن حال.
* الرياض