-1 -
رأينا في المساق السابق تدرُّجَ قصيدة النثر العربيّة في الترقّي عبر ثلاث مراحل:
1- تسمية قطعة نثريّة «قصيدةَ نثر»؛ بحُجّة أن فيها الاستعمال الشاعر للغة، وللخيال، ونحو ذلك من خصائص الشِّعر المعروفة، وبحُجّة أن الفرنسيس قد سَمَّوا ما كان كذلك «قصيدة نثر». وكان هذا إبّان تدشين المصطلح في مجلّة «شِعر»، ترجمةً للمصطلح الفرنسيّ «Le poème en prose». أي منذ الستينيّات في القرن «الفارط» إلى نهاية الثمانينيّات ومطالع التسعينيّات.
2- الانتقال إلى الزعم أن «قصيدة النثر» هي «قصيدة شِعر»، شاء من شاء.. وأبى من أبى! وإضمار القول: إن إضافة كلمة «قصيدة» إلى كلمة «نثر» كان محض لغوٍ، أو استعجالٍ، أو حياءٍ، ولات حين حياء، أو كان مجازًا، وإلّا فالحقيقة أن «قصيدة نثر» تعني بالضبط: «قصيدة شِعر»! وعليه، فإن الموسيقى الشِّعرية مجرد مكوّنٍ واحدٍ من مكوّنات الشِّعر غير المحدودة، ولا المعروفة! غيابه، إذن، لا ينفي أن النصّ شِعر. ولقد ازدهرت هذه المقولات في تسعينيّات القرن الماضي.
3- المراهنة الصاخبة على أن «قصيدة النثر» هي البديل الأخير، والخليفة الراشد الثالث، بعد الشِّعر المرسل وشِعر التفعيلة، وهو خير خَلَفٍ لشَرّ سَلَف؛ فقصيدة التفعيلة قد أعطتكم عمرها وأصبحت في خبر كانت، أمّا القصيدة التناظريّة، أو «العموديّة»- كما تُسمّى خطأً- فـ»أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ»، من بقايا العرب البائدة، وموروث الشِّعر في قوم عاد وثمود، و»هَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَة»؟! راج هذا الخطاب الاستعلائيّ الإقصائيّ خلال العِقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومن ثَمّ قامت الاحتفاليّات والمؤتمرات و»المؤامرات»، وأُصدرت المطبوعات التبشيريّة بالشَّعرنة النثريّة في طول الوطن العربيّ وعرضه. وانداح «شَبِّيْحَة» قصيدة النثر في الآفاق، مَن قال بغير قولهم تقليديّ سَلَفيّ متعصّب، لا علاج معه إلّا التصفية الثقافيّة، ومَن اصطفّ وراءهم حداثيّ مستنير!
أفلا يستأهل هذا المخاض المراجعةَ النقديّة، والغربلةَ العلميّة، بعد هذا العمر الطويل من الشِّعر الحديث، ومن تكاليف الحياة في التجديف غربًا؟ بلى. وسأحاول في هذا المساق وما يليه تحليل التحوّلات التي مرّ بها الشِّعر العربي الحديث في بنيته الإيقاعيّة.
وتهدف هذه المراجعات النقديّة إلى بيان مكانة (البناء الموسيقيّ) في شِعريّة الشِّعر العربيّ: أ هو مكوِّن رئيس، أم عنصر ثانويّ؛ يمكن الاستغناء عنه؟ مع مراجعة المصطلحات النقديّة المتعلّقة بالبناء الموسيقيّ الشِّعريّ، وفق مفاهيمه في نظريّة الشِّعر العربيّ، ومواقعه من تجربة العرب الشِّعريّة، كمفهوم القصيدة، والوزن، والتفعيلة، والإيقاع، والنبر. وذلك في مسعى إلى تأصيل الرؤية والمصطلح، لإعادة هويّة شِعريّة عربيّة مستلَبة، غرقتْ في التقليد باسم الحداثة والتجديد. وتأتي هذه المقاربة في إطار مشروعٍ نقديٍّ يتطلّع نحو حركةٍ تجديديّةٍ حقيقيّةٍ ناضجةٍ، تنبني على مرتكزات التميّز والاختلاف، وتستمدّ مشروعيّتها من ملامح الشخصيّة الثقافيّة والفنيّة العربيّة(1).
-2 -
وكنّا أشرنا في طرحٍ سابق إلى أنه يَحْدث في جدليّاتنا الحديثة، ولاسيما حول (قصيدة النثر)، مغالطاتٌ تستهدف معنى «قصيدة» في السياق العربيّ.. لغويًّا وفنّيًّا. ذلك أن «القصيدة» لم تسمَّ بهذا الاسم في اللغة العربيّة -ولغير العربيّة ما لها- إلاّ لأن النصّ «مقصّد»، أي منغّم، منظّم، مرتّل في وحدات موسيقيّة، وفي وزنٍ مستقيم، أو ما أطلق عليه الخليلُ مصطلح: بحر. لأن من معاني «القَصْد: استقامة الطريق... وطريقٌ قاصد: سهلٌ مستقيم... والقَصِيدُ من الشِّعْر: ما تَمَّ... سُمّي بذلك لكماله وصِحّة وزنه. وقال ابن جني: سُمّي قصيدًا لأَنه قُصِدَ، واعتُمِدَ، وإِنْ كان ما قَصُر منه واضطرب بناؤُه، نحو الرَّمَل والرَّجَز، شِعرًا مُرادًا مقصودًا، وذلك أَن ما تَمَّ من الشِّعْر وتوفَّر آثَرُ عندهم، وأَشَدُّ تقدُّمًا في أَنفسهم، ممّا قَصُر واختلَّ، فسَمَّوا ما طال ووَفَرَ قَصِيدًا، أَي مُرادًا مقصودًا، وإِنْ كان الرَّمَل والرَّجَز أَيضًا مرادَين مقصودَين. والجمع قصائد... وأَصله من القَصِيْد، وهو المُخُّ السمين، الذي يَتَقَصَّد، أَي يتكسَّر لِسِمَنِه، وضِدّه: الرِّيرُ، والرَّارُ، وهو المُخُّ السائل الذائب، الذي يَمِيعُ كالماء ولا يتَقَصَّد، والعرب تستعير السَّمينَ في الكلام الفصيح، فتقول: هذا كلامٌ سمين، أي جيّد. وقالوا: شِعرٌ قُصِّدَ، إذا نُقِّحَ وجُوِّدَ وهُذِّبَ. وقيل: سُمِّي الشِّعْرُ التامُّ قصيدًا لأَن قائله جعله من باله، فَقَصَدَ له قَصْدًا، ولم يَحْتَسِه حَسْيًا على ما خَطَرَ بباله وجرَى على لسانه، بل رَوَّى فيه خاطره، واجتهد ف ي تجويده، ولم يقتَضِبْه اقتضابًا... وقال الأَخفش: القصيد من الشِّعر هو: الطويل، والبسيط التامّ، والكامل التامّ، والمديد التامّ، والوافر التامّ، والرجز التامّ، والخفيف التامّ، وهو كلّ ما تغنّى به الركبان.» (2) وواضح أن معنى قوله «التامّ» هاهنا ما يقابل «المجزوء» من كلّ بحر، كأنما المجزوء لا يُعَدّ قصيدًا.
فعلى هذا فإن ما ليس فيه من الكلام وحدات نغميّة تتقصّد فليس بقصيدٍ البتّة، وعلى أرباب قصيدة النثر، إذن، أن يبحثوا عن لفظٍ آخر غير «قصيدة»، مثلما ألغوا من قبل كلمة «شِعر» واستعملوا «نثر». وهذا ما فعله النقد العربيّ القديم حين سَمَّى هذا الشكل من الكلام: «الأقاويل الشِّعريّة»(3)؛ لأن «النثيرة» هي: «رِيرٌ» لغويّ، أو «رارٌ»، أي سائلة ذائبة مائعة كالماء، لا تتقصَّد. ولذا فإن دلالة «قصيدة نثر» تشير ببساطة إلى: «نصٍّ موزون.. غير موزون»، أو «قصيدة.. لا قصيدة». ولا معنى لهذا الهراء، لا عقلاً، ولا ذوقًا، ولا لغة، إلاّ كـقولنا «نثر.. الذي يعني: شِعرًا، أو شِعر الذي يعني نثرًا»!
-3 -
ولكن ماذا عن (الوزن الشِّعريّ)؟ ماذا يعني مصطلح «وزن»؟ الذي كثيرًا ما نسمع الخلط في إطلاقه، حتى من بعض الأكاديميّين، إذ يقولون عن قصيدة تفعيلة: إن الوزن موجود فيها، وهم إنما يعنون: إن التفعيلة موجودة، أو النغم موجود؛ لأنهم لا يُدركون -أو لا يحفلون- بمعنى مصطلح (وزن) في الشِّعر العربيّ.
إن مصطلح «الوزن» لا يتطابق معناه مع شِعر التفعيلة؛ من حيث إن الوزن هو اتفاق الشطرين في عدد التفعيلات وتكوينها، وكأنهما كفّتا ميزان، هذا مع اتّفاق القصيدة في نظام أبياتها، من حيث الزحافات والعِلل، في أعاريضها وأضربها وحشوها، فلا يختلّ ميزانها الدقيق وفق قوانين العَروض العربيّ. ذلك هو ما يُطلق عليه: الوزن، أمّا شِعر التفعيلة، فلا يعدو تكرار التفعيلة، ووضع قوافٍ اختياريّة بين وقتٍ وآخر، ولا يُعَدّ ذلك وزنًا في شيء، ولا يقتضي أيّ مهارة موسيقيّة شِعريّة تُذكر، كما لا يَختبر قدرات الشاعر اللغويّة، وتحكّماته في مادّته اللغويّة. لذا كان مَرْكَبًا سهلاً لكل عابرٍ في كلامٍ عابر. وقد تنبّهت إلى وقوعه عُرضةً لقرصنة (غير الشعراء، أصلاً) نازك الملائكة(4)، منذ وقت مبكر، فاستدركت منبِّهةً إلى استغلال تلك الفُرْضَةٍ الشاسعة التي كانت قد انفتحت في ذلك القانون الصارم الذي كانت تفرضه العَروض!
ومن هنا فما في شِعر التفعيلة ليس بوزن، وإنما هو نَغَمٌ فقط، يتماوج في وحداته في غير وزنٍ مطّرد، ولا اتّزان تركيبيّ، يَرْعَى التقابل والتناظر في معمار النصّ. فالفرق بين (الوزن) و(شِعر التفعيلة) كالفرق بين (لحن أغنية على مقام من المقامات الموسيقيّة) و(عزف موسيقي منفرد على غير لحن مخصوص).
لقد جاءت قصيدة التفعيلة لتُلغي الوزن العروضيّ أصلًا، بل لتُلغي كلّ العوائق والحواجز والتحدّيات أمام الشاعر، وتُلقيها برُمّتها عن كاهله، ليُعبِّر، وكأنه يكتب نثرًا مرسَلًا، سِوى أنه يلتزم بتفعيلة يقلّبها بين كفّيه كيف شاء وشاءت له التداعيات التعبيريّة. فما ظنّنا بردّة فعل أُمّة عاشت أكثر من ألف سنة تعرف جِنس الشِّعر على أنه ذو معمار هندسيّ دقيق خاصّ، موزون مقفّى، وفجأة قيل لها: لا، سنهدم هذا القصر الشِّعري الشامخ، ونسمِّي هذه الأنقاض شِعرًا، وإنْ كانت بلا وزن ولا بناء؟! إنّ المسألة ليست مسألة تغيير عابر بل هو تغييرٌ جذريٌّ في المفاهيم والأبنية الذهنيّة والفنّيّة. فكانت ردّة الفعل إزاء هذا التحوّل أمرًا طبيعيًّا جدًّا، ومبرّرًا جدًّا. فقد أضحى العربيّ أمام تغيير جذريّ في الذوق العربيّ، وفي الشخصيّة الشِّعريّة العربيّة، التي ترى الوزن ركنًا ركينًا في البناء الشِّعري؛ وذلك كي تتماثل قسرًا مع الشخصيّة الشِّعريّة الغربيّة. [وللحديث بقية].
**********
(1) أصل هذا الموضوع ورقة بحث أُلقيت في (النادي الثقافي الأدبي) بمكّة المكرّمة، ليلة الثلاثاء 24 رجب 1431هـ= 6 يوليو 2010م.
(2) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (قصد).
(3) انظر: الفارابي، (1968)، إحصاء العلوم، تح. عثمان أمين (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، 83؛ القرطاجني، (1981)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح. محمّد الحبيب بن الخوجة (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، 67.
(4) انظر ما كتبتْه تحت عنوان «المزايا المضلّلة في الشِّعر الحُرّ»، (1997)، قضايا الشِّعر المعاصر، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 40- 00 .
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
* الرياض