كتبْتُ (هنا/في الثقافيّة-العدد 352) على المؤمّل، أنّ القطاع الأهليّ في الثقافة التعدّديّة له دورُهُ الخصبُ المتمّمُ للقطاع الحكوميّ، كما هو حال وزارتي التعليم والصحّة، فإنّ الحاجة تبقى دائماً لرأس المال أن يُضفي طوراً في خانات التنوّع وسدّ الحاجات.
ولعلّ المتاح والمباح من القنوات التي نتوسّم منها رحماً لتعدّديّة ثقافيّة -هي عصمةُ أيّ مجتمعٍ يسعى عضداً لتماسكه ووحدته- يكمن في الإعلام والملاحق الثقافيّة على شُحّها، وتكمن أيضاً في الصالونات الأدبيّة والثقافيّة (موضوع هذا المقال)، وهي عديدةٌ في مدن المملكة، لدرجةٍ أنّكَ تتعّجبُ من خمول آثارها، ثمّ أنّك لا تقوى أنْ تتجاهلها، فلعلّ ضيوفَ تلك البيوتات/الصالونات قد يفوق جمهور الأندية الأدبيّة، لكنّ الأثر يبقى طفيفاً على الجانبين. حسناً إذنْ..
أمَا يجوزُ لنا أَنْ نسألها –ولا نُسائلها- ما قدّمت أو أخّرت؟ إن شاءت في إجابتها النأي عن الترف والتقرّب ممّا يؤهّلها للقيام بأدوار إصلاحيّة أذنت قيادة الدولة بالشروع بها منذ عقد من السنوات، ولمن نصل بعد لمرحلة (ما بعد تعريف مصطلح الإصلاح)، أمّا أنّ ثمّة معوقات من داخل المؤسسة تحول دون بلوغها الطور المنشود؟ أيفترض -أساساً- أن تُسهمَ في نهضة ثقافيّة-فكريّة، ونهضة ذات فاعليّة إسهاميّة في بؤر صناعة القرار؟ فليس مشروعا ثقافيّا بذي قيمة إن لم يؤثّر في الشارعين (الشارع الشعب-المجتمع، والشارع المؤسسة-المشترع)؛ ولئن كان جُلّ أصحاب تلك الصالونات من طائفتي الأدباء والمثقّفين، بيد أنّه -أيضاً- توجد طائفة أخرى تنتمي إلى عالم الأعمال، فما الذي أوعز لهؤلاء المحسنين أن يقفوا على باب الثقافة، ثمّ لست تدري إن تجاوزوا الباب، أمْ مرّ الزمان بهم وهم دون الدخول؟!
الأسئلة جُملةٌ، لا تنتهي في مسألة متعدّدة القراءات، لكنّنا نريد: (أن نرى بعين النحل، لا بعين الذباب)؛ الماضي مضى وانقضى، فلسنا نفتّش وراء عهد تولّى، فتلك أمّة قد خلت. ماذا بإمكانها أن تقدّم اليوم/غداً، كيف يمكن لها أن تتحوّل إلى جماعات ضغط في ظلّ حراك غائمٍ غير مفهوم، تحسبُه حراكاً وتخشى أنّه محض سراب، لست تدري إلى أين نحن مُتَّجهون، فبينما الرقابة تمنع عدداً كبيراً من كتب ومؤلفات لمفكّرين وأدباء، وبينما المناهج التعليميّة ما زالت دون مستوى المدنيّة والعصرنة، تجد طائفة لا بأس بها انتهت مطالباتهم وأحلامهم بالاحتفاء بتجربة الانتخابات الأدبيّة.
أولئك (المتفائلون-المتعجّلون) أما كان حريّ بهم (1) المطالبة بجواز دخول الكتاب إلى مكتبات البلد بدلاً من الاحتفاء بانتخابات لم تنزع استقلاليّة الأنديّة من تبعيّة الوزارة(بعد)، ولم توفّر أوّل شرط للمعرفة والتنوير: (وهو وجود الكتاب-وعلانيّة قراءته بين القبول والرفض)، (2) المطالبة بزيادة هوامش الحريّة وإلغاء وصاية الرقابة (3) اتساع قنوات التعدّديّة الثقافيّة.
**
لدى الصالونات ما يؤهّلها (ظنّاً) لتنشيط المنابر الأهليّة توازناً وتنوّعاً عن المنابر الرسميّة، لتقدّمَ مفهوما مُغايراً ومختلفاً عن السائد، وفق مرونة الاختلاف وتوافقيته الإلزاميّة الضامنة لوجوده، بحيث تكون (المؤتلف والمختلف) في آن.
من المستفيد من تحجيم دور الصالونات واختزال إمكاناتها بأدوار مكرورة ومتشابهة: (محاضرات، لقاءات، حفلات تكريم، جوائز متواضعة)، وحتّى التكريم، بقيَ مأسوراً بإشادات خطابيّة -يتوهّم قائلها أنّه في منزلة التعميد والمصادقة- وشهادات ورقيّة بائسة، ودروع يتفاوت حجمها/(منها ما ينوء على حمله أولي العصبة)، أمّا التكريم بمفهومه اللغوي/الإنساني، فليس له مدلول في قواميس سلوكهم واحتفاءاتهم، ولسنا نجده في المؤسّسات الرسميّة كسُنّة دائمة وغير استثنائيّة، (أي شرعنة حماية المفكّر والأديب والمثقّف من العوز والحاجة) ولا نجده في الصالونات الأدبيّة الثقافيّة المُنْعَمَةْ
**
إن وفرة الصالونات في بلادنا تجعلنا (طامعين) بها، أن تمارس دوراً أكثر إيغالاً في الشؤون الثقافيّة الإصلاحيّة، أن ترتقي طوراً متقدّماً عن الأدوار البالية، التي عفا عنها الزمن؛ فلئن كانَ دورها مُستساغاً في فترة البُطء الإعلامي (ما قبل) الفضائيّات والنت، أن تشغر (إلى حدٍّ ما) فراغاً في البعد الجغرافيّ بين أدباء ومثقّفي مدن الداخل، وأدباء الدول المجاورة، (وهو دورٌ هادئٌ غير تصادمي) إلاّ أنّه بقيَ دوراً محدوداً في التواصل، وهذا ما نلاحظه في أهداف جميع الصالونات المعلنة. وهي أهداف لم تعد لها قيمة بحكم شيوع العولمة المعلوماتيّة، فكيف يستمرّون ضرباً على هذا النول, وحسبك (المواقع الاجتماعيّة على النت) توصلك بمن تشاء في العالم، لتقرأ له وتناقشه وتسمع منه.
غيابُ الاختلاف وفلسفة التيّارات والتكتّلات عن مُسبّبات وجود تلك الصالونات سمةٌ لا تست دعي حُجج استدلال لانعدام الأثر الخلاّق وقوّة الضغط الناتجة عن قيمة الحضور التي تشرعن وجوده الاجتماعي الإصلاحيّ.
أدّى الغيابُ بها إلى إلحاقها تحت (مشلح) الأُحاديّة الرسميّة، هكذا تفقد مشروعيتها كنواةٍ استقلاليّة تنهض بالتعدّديّة المنشودة إمعاناً في إنعاش ثقافي يخشى ضموره بأحاديته، فالحضور أساس المشروع، وقيمة الحضور أساس الوجود الاجتماعي والقبول. أما وجود (جائزة هنا، وخروف مشوي هناك)، فتلك هرطقات لا تشكّل مشروعاً بدائيّاً لأيّ فكر، فكيف يمكن أن يعوّل عليها بأنّ تشارك في الأسئلة المصيريّة التي تُلْقى اليوم في ميادين العواصم العربيّة: وما أفرزته صناديق الجيران من حضور الإسلام السياسيّ-(المغضوب عليه سياسيّاً: عربيّا وغربيّا).
**
أكان للعلمانيين صالون ثقافيّ يلمّ شتيتهم وشتاتهم، يبلور رؤاهم بما يقدّم ويُضفي بُعداً ثقافيّاً جدليّا مع الثقافة السائدة فيزحزح عنها أحاديتها ويزاحمها للدخول مشاركةً في العُرف وقوّة الحضور/القبول اجتماعيّاً! أكان لتيار الحداثة صالونها، الذي يصيغ اتجاهاتها، أمْ بقيت حالات فرادى لم تصل لمرحلة التكتّل على الرغم من إبداعاتها وصراعاتها، لأسباب تتعلّق بمحظوريّة العمل الجمعي الأهلي وفق أفكار وفلسفات بعيدة عن العُرف والتقاليد الدينيّة.
لقد كانت الفرص مؤاتية لمؤازرة الجهود الرسميّة في سبيل الإصلاح والتنوير بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، لكنّ بقيت الأصوات والقوى المعتدلة أو العلمانيّة المتفرّقة أشتاتاً، وتُركتِ الساحة لمن أسهم في الغلو أن يمارس مناصحة الاعتدال.
ليس من مشروع أهليّ ثقافيّ إذن، وإن بدا وجود ليبراليين وعلمانيّين ومستقلّين إلاّ أنّه وجود فردي/أحادي لا ينتج، ليس إلاّ التيّار الديني (على اختلاف مستوياته) السبّاق دائماً مع المجتمع خدماتيّا وتسويقاً، إن كان عبر الشارع، أو التعليم، أو عبر وسائل أخرى، منها ما هو مشروع، ومنها ما انتزعه عن طريق العُرف وقوّة الحضور. أمّا الشقّ المدني/التنويري/الإصلاحي من الثقافة فيبقى يتيماً غائباً، ليس له من منبر مستقلّ ولم يستطع أن ينتزعه مع تراجع حضوره الوجودي الاجتماعيّ، إلاّ أن يضطرّنا الأمل والعمل أَنْ نعوّل على الصالونات والقنوات الأخرى المباحة أن تتفاوض على وجودها المستقلّ بحضورها المتعدّد، وأن تخطو خطوة نهضويّة إن كانت تتطلع إليها، في بلدٍ (حماهُ اللهُ وأهله) نعمةُ وجوده كامنةٌ في التعدّديّة، فمَنْ بترها جعلها نقمةً، ومَن أغناها جعلها عصمةً؛ فأين تذهبون؟
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة