كنا نقضي الليل بأكمله في مطبخ جريدة البلاد لكي نظهرها للقراء في موعدها الملائم، بل كنا أحياناً نبقى في المطابع حتى التاسعة صباحاً عند ما تتأخر بعض الأخبار، كان ذلك في العام الثامن والسبعين وما بعده من القرن الهجري الماضي يوم كان إخراج صحيفة يومية لا يقوى عليه إلا أولو العزم من الرجال، وكما هو معلوم أن السهر بهذا الحيل، ولا علينا من أم كلثوم عند ما كانت تغني (وما قصر في الأعمار طول السهر)، لكننا في الفترات التي تخف فيها وطأة العمل نجنح إلى سماع أغانيها المطولات: شمس الأصيل، مثلاً، وفي إحدى الليالي كان الأستاذ محمد حسين الأصفهاني عائداً من حفل عشاء ولما حاذى مطابعه حيث كنا نؤدي عملنا المعتاد عنّ له أن يطمئن على سير العمل، ولاحظ أحد العمال من الإخوة المصريين يعمل ويستمع لأم كلثوم في ذات الوقت فخاطب العامل قائلاً:
هل نحن في عمل وإلا في أغاني يا زكي؟ قال العامل:
وماله يا بيه ما الأغاني للأصفهاني!
عندها لم يتمالك الأصفهاني نفسه من الضحك وعاد أدراجه وكأن الإجابة أحرجته، وقد كان في مقدوره أن لا يتهكم على العامل لأن التسلية مطلوبة في مثل ظروف السهر الإلزامي، ولولا أن العامل كانت لديه مسحة ثقافة بحكم عمله في المطابع حيث أن بعض عمال المطابع أكفأ من كثير من فئات الناس الأخرى؛ لكان احتار في الإجابة المناسبة والظريفة أيضاً، وربما طلب الصفح والغفران إزاء هذه الخطيئة(!).. فالثقافة إذن ليست مجرد ترف يستغني عنه المرء، بل هي شيء أساسي في حياة الناس لأنها من ضروب العلم وكلما ازداد الإنسان منها كان حظه أكبر في التفوق الذي ينشده الأسوياء في كل زمان ومكان!!
أقول هذا في زمن يعجز فيه بعض خريجي الجامعات عن إتقان أبسط قواعد اللغة العربية نطقاً وكتابة، فضلاً عما هو أصعب، وما ذلك إلا لأن كثيرين منهم لا يعيرون القراءة اهتماماً كافياً والأستاذ عبد الفتاح أبو مدين يردد مقولة (أمة إقرأ لا تقرأ) مع أن الإبحار في ما بين السطور متعة لا ترقي إليها خزعبلات الكمبيوتر الذي اخترعه صانعوه لإنجاز الأعمال وحولناه نحن إلى هراء وترهات من قبل فئة الشباب إلا من رحم الله، وكأننا أتينا ب(رأس كليب).. لكن الذنب ليس ذنب الشباب ما دام - ولا أقول طالما لأن هذا ليس موضعها إلا في عرف ومفهوم من يجهلون قواعد اللغة العربية من بعض الكتاب والمحررين - أن مدرسيهم لا يقرأون بل لا يفكرون في شيء اسمه القراءة، ولو كنت مسؤولاً في التعليم - وهذا مستحيل بطبيعة حالي - لخصصت حصصاً للثقافة وألزمت الطلاب بالقراءة أكثر من مرة في الأسبوع ولكنت أخضعت مادة الثقافة العامة والقراءة الحرة المتابعة الدقيقة، لكي أعود الطلاب عليها وأتاكد من مفعولها لديهم، إذ القراءة القسرية ذات فائدة كبيرة ويكفي أنها - أي القراءة - تعتبر حجر الأساس في الحضارة الغربية التي لا تخطئ عندما نقول إن اللحاق بها في غاية الصعوبة مفضلين عليها التبعية لمن سبقونا إليها.. فهل من مذكر؟!
الباحة