(1)
الآن وبعد أن انعدمتْ المسافة بين الخياليّ و الواقعيّ وبعد أن أصبح الأرضيّ مسكونا بهاجس السماويّ و إلى درجة التقمص ربما، ماذا تبقى على الشعر أن يؤديه؟ و أي قناع يجب أن يختاره في هذه الحفلة التنكرية؟
فماذا إن فضّل السير عاريا؟
إن اختصار التجارب والتحولات النفسية للكائن و وضعها في قوالب معدة سلفا وتسميتها بالشعر لهي أقسى الجرائم وحشية بحق الشعر، ثم من الذي يضع هذه القوالب ويوزع مثل هذه الصكوك، إنني لا أستطيع أن أفهم تصور الشاعر للحالة الفنية التي ستنصهر عليها تجربته بينما أتفهم ذلك الوعي بالبناء المتقن والمعمار الفاتن للنص، ثم متى كان يمكن لنا أن نحاصر العاصفة؟ أو أن نأمر المطر بأن يتوقف، إنني لا أعرف حالة إبداعية على مر التاريخ لم يغب صاحبها فيها أو لم يسلم نفسه فيها للمجهول، فإن كانت لحظة الشعر هي اللحظة الوحيدة التي تمكِّننا من الذهاب بعيداً دون رغبة في الوصول، دون رغبة في العودة، والاستغراق في الغيبوبة فعلى ماذا نراهن غير الشعر.
(2)
إن الذين يلوموننا على الإفراط في المجاز والمراوغة في المعنى لم يعرفوا أبداً ما يعنيه أن يختنق الماء في النبع، إن تدفق الماء بهذه الطريقة الفجة تعني نفاذه تماما وإلى الأبد، ثم كيف لنا أن نتخلى عن المجاز وهاهي المُدى تستلقي على الأعناق، و المشانق منصوبة على الأرصفة؟ وإن كانت اللغة هي أيضا تراوغُنَا وتوقعنا مراراً في شراكها، فألا يحقُّ لنا أن نقاوم الخديعة بالخديعة، والفخاخ بالفخاخ؟
(3)
إن الشاعر الحقيقي أشبه بالطفل، تلمُّسه للوردة وسؤالهُ عن السماء يشبه تماما دهشة السؤال لدى الطفل. لا يوجد شعرٌ حقيقيٌّ وقَفَ يوما على أرض يقينية، كل التجارب التي خلّدتْ اسمها كانت قلقة حتى في مراحلها المتقدمة.
ثم ما هي التجربة؟
إلا تلك التفاصيل التي اختلطت فيها العوالم لدى الشاعر وانتهكت فيها الحدود وهذا كله لا يحدث إلا في عوالم خاصة جداً.. جداً، حيث تكمن الفتنة والدهشة في أنه لا أحد يستطيع معرفة واقعيتها وهذا إن افترضنا أنها قامت على معطيات واقعٍ ما.
لقد مضى زمن البكائيات كثيراً وليس من المعقول أن نقيس التجارب بمقدار تحريكها للوتر الأخير وتجاهل العبقرية الفنية لها.
إن معنى الشعرية الحديثة أو ما يفترضه الواقع من طريقة للكتابة أراه يشبه الحرب الباردة، حيث على الشاعر الهروب من جحيم الواقع و الدخول في فردوس المخيّلة،أو تفادي كلاليب الجحيم و الحصول على ملذات الفردوس.
(4)
لا يمكن للنص الإبداعي أن يكون كذلك إلا إذا كان مغايرا للمألوف وهادما لكل الأنساق، لا يمكنني أن أتخيل نصا إبداعيا خاضعا لرقيب أو لشرط ما..حتى شرط اللغة ينكسر أحيانا بحسب الضرورة الفنية وما تقتضيه طبيعة التجربة.
(5)
ماذا أقول...؟
هل استطاعت السفينة أن تصل إلى الشاطئ
أو هل رأت الساحل أصلا؟
إن من يظن أنه قد يصل إلى الساحل فسيكون مبالغا في الوهم فها هي السفن التي أبحرتْ لم تصل ولم تعد إلى الآن وها هم من كانوا على ظهرها وكأنهم لم يبرحوا مكانهم
وكأنهم لم يبحروا
نفس الوجع.. وذات التيه!
فهل للأمواج أن تنْبتَ جزيرة تنهي هذا الألم؟!
أبها