تقديم المترجم: صدرت مؤخرا وقبيل أسابيع مذكرات ديك تشيني الذي يعتبره البعض أقوى نائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة وهي المذكرات التي طال انتظارها من معظم المراقبين من مؤرخين وعلماء السياسة والمثقفين بصورة عامة وأيضا هواة ومحبي أدب المذكرات أو السيرة الذاتية (وبينهما فرق) حيث تعتبر آخر مذكرات عن حقبة دبليو بوش المشؤومة، فقد صدرت تقريبا جميع مذكرات كبار المسؤلين في تلك الإدارة التي حكمت من عام 2000 حتى عام 2008 مثل الرئيس دبليو بوش، ودونالد رامسفيلد، وكولن باول، وكوندي رايس، وكارل روف، وغيرهم.

وصدرت مذكرات تشيني بعنوان (في وقتي: مذكرات شخصية وسياسية) في 576 صفحة عبر دار (ثري شولد) الأمريكية للنشر. ونقلت مجلة (يو إس نيوز آند وورلد ريبورت) عن كولين باول، وزير خارجية أمريكا السابق وزميل تشيني في إدارة بوش الأولى، وصفه لمذكرات تشيني بالكتاب (الخسيس) وقالت المجلة إن باول توقف بالكاد عن وصف تشيني بالكاذب ربما – كما تخمن المجلة – لأنه لم ينسَ حتى الآن أن تشيني جعله يلعب دور الغبي أمام الأمم المتحدة عندما قدم له البيت الأبيض معلومة كاذبة بأن العراق يملك أسلحة دمار شامل وبالتالي أكد باول كوزير لخارجية أمريكا هذه المعلومة في اجتماع حاسم للأمم المتحدة وهي المعلومة الكاذبة التي يعتقد المراقبون أن تشيني لفقها مع (سي آي أيه) وتسببت في غزو العراق. وقال باول بغضب في برنامج (قابل الأمة) Face the Nation الذي يعد من أهم البرامج الأخبارية في أمريكا والذي تبثه قناة (سي بي إس) CBS ظهر الأحد أسبوعيا: (إن تشيني وجه في مذكراته هجمات حقيرة ورخيصة له ولزميلته كوندي رايس التي خلفته في منصب وزير الخارجية). والجدير بالذكر أن تشيني قال في كتابه إن باول حاول تقويض وإضعاف إدارة بوش عبر نقدها أمام أشخاص من خارج الحكومة، وكان باول الذي استقال بعد إعادة انتخاب بوش عام 2004، قد ذكر أنه استقال لأن الحكومة لم تكن تعمل كفريق واحد في ذلك الوقت ربما – كما تخمن المجلة - في إشارة منه إلى دور تشيني المؤثر على الرئيس بوش. ووصف تشيني في كتابه بقسوة وتهكم استقالة باول من إدارة بوش بأنها كانت أفضل إنجازات باول ولمصلحة أمريكا ومكسب لإدارة بوش. ونقلت صحيفة هافينغتون بوست الإلكترونية عن تشيني توقعه بأن (تطير رؤووس عديدة في جميع أنحاء واشنطن بعد صدور كتابه). ونقدم هنا ترجمة لمراجعة صحيفة واشنطن بوست لهذا الكتاب الذي أثار الجدل فور صدوره وهي مراجعة بقلم الصحفي روبرت كايزر ونشرت بتاريخ 29 أغسطس 2011.

(في وقتي: مذكرات شخصية وسياسية) لديك تشيني

إذا قرأ هذا الكتاب شخص ذكي أمضى آخر عشر سنوات خارج الأرض، لنفرض مثلا كوكب المريخ، فإنه بعد قراءة الكتاب لن يكون عنده أدنى فكرة أن ديك تشيني كان نائب رئيس أمريكا في واحدة من أكثر الإدارات الأمريكية تعاسة وخزيا في العصر الحديث. ومما لا شك فيه أن في الكتاب تلميحات بأن الأمور لم تسر دائما بنجاح وسلاسة تحت رئاسة الثنائي دبليو بوش وتشيني، ولكن هذه التلميحات محاطة بروايات عن انتصارات مزعومة في أحداث سيكون من غير المرجح أن يعتبرها العديد من القراء والمؤرخين في المستقبل انتصارات حقيقية!!

هذا ليس مستغربا، لأن هذا النوع من مذكرات لرجل دولة نادرا ما تحتوي على نقد ذاتي، أو حتى الكثير من الصراحة، لأن الهدف على ما يبدو، هو الحصول على مقدم مالي من الناشر، مع رواية سريعة لقصتك تحتوي على كثير من المدح الذاتي لحياتك مع التركيز على اللحظة الخاصة بك تحت الأضواء أي في المنصب السياسي. وينبغي أن يكون هناك، بطبيعة الحال، كمية من المعلومات الحصرية وبضع فقرات صريحة عن (مشاعرك) الحقيقية عن الآخرين، وليس عن نفسك.

لدينا حتى الآن ثلاث مذكرات متغطرسة ونرجسية من الإدارة الماضية: للرئيس دبليو بوش، ولوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ولتشيني. المؤرخون في المستقبل الذين لديهم الجرأة الكافية لمحاولة معرفة ما حدث فعلا في عهد الرئيس الثالث والأربعين سيواجهون الإحباط والتشوش بسبب جميع هذه الكتب الثلاثة، لأن أيا منها لا تتناول بوضوح القضايا الهائلة التي سببتها هذه الإدارة العنيفة والفوضى العالمية القذرة التي تركتها للإدراة التالية لكي تنظفها.

وبالنسبة لتشيني وابنته ليز التي يصفها تشيني (معاونتي والرئيس التنفيذي لفريق إعداد كتابنا)، فإن النقطة الوحيدة الحقيقية للكتابة عن سنواته في منصب نائب الرئيس هو توضيح كيف كان تشيني محقا دائما، وكيف كان منتقدوه وخصومه البيروقراطيين مخطئين دائما. ولأكثر من مرة يقول تشيني إنه سيفعل مرة أخرى بالضبط ما فعله في المرة الأولى (من أعماق قلبه). ولا يعترف بأي ندم جدي حول أي شيء فعله.

هذا الكتاب الكبير ليس فقط عن كونه نائبا للرئيس. فأول 255 صفحة مخصصة لحياته المليئة بالأحداث قبل طلب دبليو بوش له في حملة عام 2000 أن يقود فريقا للبحث عن نائب رئيس مناسب. قصة صعوده من أصول متواضعة (والده كان موظفا حكوميا بسيطا ومتعصبا للحزب الديمقراطي) هي بالتأكيد جيدة، ورويت بذكاء. ولكن تشيني تجنب الوضوح في كل منعطف غامض في حياته كان يحتاج للشرح.

وهكذا يروي لنا كيف حصل على منحة دراسية في جامعة ييل بمساعدة من خريج متحمس من ييل كان رجل نفط في ولاية وايومنغ، ليقابل (بعض الأقارب الطيبين أمثالي من الشباب الذين لم يتكيفوا بشكل جيد جدا مع جامعة ييل وشاركوني رأيي أن البيرة تعتبر واحدة من ضروريات الحياة). رسب تشيني في ييل وطرد، ثم عاد، ورسب ليطرد مجددا مرة أخرى. ما السبب؟ لم يطرح تشيني السؤال أو يقدم الإجابة عليه. حتى أنه لم يوضح أهم سماته السياسية: كيف ولماذا أصبح جمهوريا محافظا؟!!!

وعندما بدأ تشيني مغامرته الكبرى في منصب نائب الرئيس، فإن رواية تشيني لحياته قلما تختلف عما سبق أن قاله مرارا وتكرارا في الخطب والمقابلات.

إنه لا يحاول أن يشرح لماذا قرر دبليو بوش عام 2000 اختيار رئيس فريق البحث عن نائب للرئيس كما ذكرنا سلفا ليكون نفسه (ديك تشيني) هو نائب الرئيس، ولكن اعتزازه بالاختيار واضح في الكتاب. تذكروا: كان تشيني نفسه قد شكل بالفعل لجنة استكشافية للنظر في ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في عام 1996، وبالتالي فإن تفكيره في الوصول لقمة هرم السياسة الأميركية كان في ذهنه لبعض الوقت.

لقد كان اهتمامه ليس في الأبهة والبهرجة بل بالسلطة. ومع ذلك، فإن النفوذ غير العادي الذي تمتع به تشيني في منصبه، كما يكتب، لم يكن من تفكيره: (من اليوم الأول، قال لي دبليو بوش بوضوح إنه يريد مساعدتي له في الحكم ... إلى حد أن هذا خلق ترتيبا فريدا من نوعه في تاريخنا، مع نائب للرئيس يلعب دورا هاما في قضايا السياسات الرئيسية اليومية، إنه ترتيب جورج دبليو بوش).

تشيني بعيد عن الصراحة في مذكراته حول الطرق العديدة التي استغل فيها هذا الترتيب الفريد من نوعه. مساحة هذه المراجعة لا تكفي لسرد هذه القصة، ولكن ينبغي على القراء الفضوليين أن يقارنوا، على سبيل المثال، بين روايتين للمعركة التي خاضها نائب الرئيس ومحاميه، ديفيد أدينغتون، ضد وزارة العدل حول شرعية التنصت على المواطنين الأمريكيين بعد 11 سبتمبر.

ففي رواية وردت في أفضل كتاب عن سيرة نائب الرئيس ديك تشيني وهو بعنوان (الصياد) ومن تأليف محرر الواشنطن بوست بارتون جلمان، يصف جلمان كيف تسبب كل من تشيني وأدينجتون في حدوث (تمرد) على الرئيس بوش في وزارة العدل، مما دفع معظم المسؤولين ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إف بي آي في الشروع لكتابة بروفات خطابات استقالة في ربيع عام 2004، لاستخدامها اذا رفض البيت الابيض تغيير المسار مما تسبب في وقوع شبح لفضيحة ووترغيت. جلمان يبين كيف أخفى تشيني مع كبير موظفي البيت الأبيض أندرو كارد تلك المعركة الكبرى عن الرئيس دبليو بوش حتى اللحظة الأخيرة. وعندما علم بوش عن تلك المعركة، ساند موقف زارة العدل وأمر بتغييرات في برنامج المراقبة والتنصت.

رواية تشيني عن نفس الحادثة كانت أقصر بكثير وأقل درامية وتفصيلا بكثير. تنتهي بهذه الطريقة: (وفي مواجهة تهديدات بالاستقالة، قرر الرئيس تغيير برنامج وكالة الأمن القومي، على الرغم من أنه ومستشاريه كانوا واثقين من سلطته الدستورية لمواصلة البرنامج بدون تغيير). تشيني لا يذكر من الذين هددوا بالاستقالة، ولا يشير إلى أن جميع كبار موظفي وزارة العدل كانوا يعارضون موقف تشيني وتبريره القانوني للتجسس على المواطنين الأمريكان.

أولئك الذين تابعوا مسار تشيني من 2000 إلى 2008 سوف يتعجبون كيف قام بتجاهل وإغفال العديد من الأحداث والتطورات الرئيسية الهامة والمحرجة له في هذا الكتاب. إنها قائمة طويلة تشمل على سبيل المثال لا الحصر:

- التحذيرات حول وجود تهديد للولايات المتحدة من تنظيم القاعدة في وقت مبكر من إدارة بوش، بما فيها تحذير صارخ من ريتشارد كلارك، الخبير في مقاومة الارهاب في مجلس الأمن القومي. تشيني تجاهل أن هجمات 11 سبتمبر كان يحتمل منعها لو تم التعامل بجدية مع التحذيرات المعلومة.

- فشل إدارة بوش في استغلال فرصة حصار (تورا بورا)، لاعتقال أو قتل أسامة بن لادن في المرحلة الأولى من الحرب في أفغانستان. وفي وقت لاحق، لم يذكر القرار الخاطئ بتحويل الموارد العسكرية من أفغانستان إلى العراق قبل فترة طويلة من استقرار الوضع في أفغانستان.

) كيف ولماذا قررت الإدارة شن حربين دون أن تطلب من الكونغرس أو البلد توفير المال لهاتين الحربين. وهذا الأمر هو جزء من قضية يتغافل عنها تشيني: كيف حدث أن الادارة (المحافظة) التي خدم فيها حولت فائض الميزانية الكبير التي ورثتها إلى عجز هائل لم تحاول جديا السيطرة عليه. إنه يفتخر عدة مرات عن دوره في تخفيض الضرائب تحت إدارة بوش، بما في ذلك تصويته الحاسم لكسر التعادل في مجلس الشيوخ في سن الجولة الثانية من التخفيضات الضريبية في عام 2003. ثم، في نهاية كتابه، يحذر تشيني من أننا (نعيش بصورة أكبر من طاقتنا، بدون أن نظهر إرادة سياسية لتغيير ذلك)!!!

) لماذا تطورت الحرب في العراق بشكل سيء للغاية من لحظة سقوط حكومة صدام حسين، وكيف يمكن لعنوان كتاب محرر الواشنطن بوست توماس ريكس الذي يتكون من كلمة واحدة تلخيص مشروع حرب العراق بأكمله: Fiasco (فياسكو) أي (الفشل الذريع)؟!

) هل كانت إدارته، أو صديقه آلان غرينسبان رئيس البنك المركزي، قد ساهم في الانهيار المالي الإقتصادي الكبير عام 2008، مما خلق أسوأ الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة منذ عقود عديدة. تشيني يعامل ذلك الانهيار المالي الإقتصادي كحدث ناتج عن قوى خارجة عن سيطرة الحكومة. إنه يمر بدون تعليق على كارثة حبس الرهن، وفقدان الوظائف، والآلام الاقتصادية الأخرى التي تسبب فيها الانهيار المالي الإقتصادي الكبير، والتي ستكون جزءا هاما من إرث إدارة بوش.

تشيني لا يتجاهل فحسب دوره الأساسي في تعزيز استعمال ما سمي بـ (تقنيات الاستجواب المطورة) التي وصفها الرئيس أوباما والسيناتور جون ماكين وآخرين كثيرين كنوع من (التعذيب)، ولكنه يرفض الدخول في أي نقاش حول ما إذا كانت تشكل خروجا على القيم الأميركية التقليدية. إنه يعلن ببساطة إنها لا تعتبر كذلك وأن: (الولايات المتحدة لم تخسر أبدا حسها الأخلاقي)، كما يؤكد لنا. بالنسبة لتشيني، كما يروي لنا مرارا وتكرارا فإن (هجمات 11 سبتمبر غيرت كل شيء)، لكنه لا يشرح مطلقا كيف أو لماذا؟!!

انشغال تشيني الرئيسي، في رواية سيرته كنائب للرئيس خلال الفترة التي قضاها في منصبه، مخصص لصدام حسين والحرب في العراق. هنا، أيضاً، يتجنب تشيني الكثير. على سبيل المثال، يصر تشيني ببساطة على وجود علاقات مهمة سابقة بين صدام حسين و القاعدة قبل 11 سبتمبر مما برر غزو العراق كجزء من الحرب على الإرهابWar on Terror (التي يكتبها بحروف كابيتال دائما في هذا الكتاب WOT). ولكن لم تؤكد أو تؤيد أية وكالة مخابرات أو أية مؤسسة أمنية أمريكية هذا الرأي، على الرغم من جهود تشيني الهرقلية لدفع وكالة المخابرات المركزية (سي آي أيه) للقيام بذلك. كما إنه لا يتأقلم أبدا مع حقيقة أن صدام حسين لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل وهي حقيقة مؤكدة الآن ربما لأنها محبطة جدا له، بالطبع. إنه يروي جوانب من دوره الخاص في إذكاء نيران الحرب لكنه يتجاهل العديد من الاخطاء الشخصية الأكثر شهرة له.

على سبيل المثال، يقتبس تشيني من خطاب ألقاه أمام منظمة المحاربين القدامى في أغسطس 2002، لكنه يتجاهل التأييد الضمني الذي احتواه الخطاب لرأي هنري كيسنجر بأن القيام بعمل عسكري (وقائي) ضد صدام حسين يعتبر أمرا (حتميا) - في وقت كان فيه الرئيس بوش كان على الأقل يتظاهر بأنه لم يتخذ قراره. ويتجاهل تشيني هذا المقطع الخطير من تلك الخطبة:

(ببساطة، ليس هناك شك في أن صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل. ليس هناك شك في أنه يجمع تلك الأسلحة لاستخدامها ضد أصدقائنا، ضد حلفائنا، وضدنا).

ولكي نوجز بكل (بساطة)، فإن رواية تشيني عن نفسه أولا كنائب للرئيس والآن ككاتب المذكرات، مكتوبة (ببساطة) أكثر من اللازم؟ أليس كذلك؟