إن الثقافة بمعناها العام والشامل تشمل أنماط السلوك والمعايير الأخلاقية والدينية وأساليب الإنتاج والتقنيات، فضلاً عن الإنتاج الأدبي والتراثي والفني والعلمي وإنتاج العلوم الإنسانية والاجتماعية كافة. أما المثقف بشكل عام هو من يمتلك جملة من المعارف والمعلومات ويسعى إلى تكوين آراء أو إخراج إبداعات تسهم في تنمية الوعي الجماعي للمجتمع وأكثر ما يميز المثقف عن غيره أنه باحث عن الحقيقة وكاشف لها.
المثقف والسياسة
المثقف إنسان معنيُّ بالسياسة، لأنه مواطن ومنتمي إلى جماعة ومعني بمشاركة هذه الجماعة ورعاية قيمها وإنتاجها وهو المتميز بأنه صاحب موقف في المجال العام، ويتبعه مريدون في صورة تيار ثقافي وفكري، وهو ملتزمٌ ومسؤولٌ ومطالبٌ عند المنعطفات الكبرى، بل هو أكثر من ذلك فهو مطالب بما يهمّ المجتمع الإنساني كافة.
حتى يكون للمثقف مثل هذا الدور لا بد من جملة اشتراطات:
- أن يكون في مجتمع يصغي إليه.
- أن يكون في مجتمع ديمقراطي.
- أن يكون في مجتمع يحترم العقل والفكر ويهتم بهما.
- أن يكون في مجتمع يقوم فيه الحوار بين فئات الناس وخاصة بين الثقافة والسياسة.
بجملة هذه الاشتراطات يمكن أن يكون المثقف كائناً سياسياً قائماً على شؤون الحقيقة والحرية والعدالة.
الفرق بين المثقف والسياسي
السياسي في مجتمعاتنا هو القائم على مجموعة من المناورات والألاعيب والممارسات التكتيكية التي ترتبط بالعمل السياسي، وهو محكوم دائماً لحسابات تذليل الموانع والمعوقات من طريق مشروعه السياسي وقد يتطرق به همّ الوصول إلى حد القفز فوق القيم والضوابط والحقائق، لأنه لا يرى نفسه في موقع الكشف عن الواقع وإزالة الأوهام التي تحيط بالموقف المعرفي، وإنما جلّ همّه أن يصل بمشروعه السياسي إلى حيث يشاء سواء توافق مساره مع القناعات أم تعارض.
بعد هذا نستطيع وبشكل عام أن نقول إنّ أبرز ما يميز المثقف عن السياسي هو:
- المثقف ملتزم بالحقيقة.
- المثقف معني بالنقد.
- المثقف متجرد عن مصلحته الذاتية.
- المثقف مرتبط بالحريّة ليمارس دوره.
- المثقف يعيش ضمن حدود وإلزامات وشروط في ممارسة عمله النقدي.
دور المثقف في مجال السياسة
إن دور المثقف في مجال السياسة هي النقد بكل ماتحمل هذه الكلمة من إيجابية وهو المسؤول عن الرؤية البعيدة المدى لأي عمل سياسي، وذلك حتى يتحقق للسلطة القيام بدور أفضل وتحقيق المنعة والقوة في حركتها مع الأمم الأخرى، والمثقف يمارس هذا النقد بكل موضوعية بعيداً كل البعد عن المواقف غير الواقعية. إن من الأهمية بمكان إدراك أن صناعة القرار السياسي يكون من النخبة المثقفة وأنه لا توجد فجوة بين المثقفين ومتخذي القرار.
خطورة فصل المثقفين عن السياسة
إن المثقف الغيور على أمّته والذي يمتلك جملة من المعارف والمعلومات ويسعى إلى تكوين آراء وإخراج إبداعات تسهم في تنمية الوعي الجماعي للمجتمع، هو بهذا المعنى مرتبط بالضرورة بالسياسة القائمة على إدارة شؤون الأمة وفق آراء أبنائها الغيورين، وأن أي فصل للمثقفين الغيورين عن العمل السياسي سيترتب عليه مخاطر نجملها:
- إذا كان المثقف مسؤول عن الرؤية البعيدة، فإن أي غياب له يعني قصر النظر لأي رؤى سياسية.
- ستصبح السياسة محكومة بالاستغراق في التفاصيل الصغيرة دون معالجة المفاصل الكبيرة في حياة الأمة.
- ستصبح السياسة محكومة بغياب البرامج والرؤى.
- سيعيش المجتمع حالة من الركود والتخلف.
- سيعيش المجتمع حالة من الهذيان النفسي، الفكري والثقافي.
إن مقولة فصل المثقف عن السياسة هو حديث سياسي من الدرجة الأولى ويخدم مصالح سياسية.
إن العالم العربي السياسي يعاني من الاختزالية السياسية وهي تضخم حجم الحاكم إلى الدرجة التي يختزل فيها كثير من الضوابط على حركته السياسية، إلى الحد الذي لا يقبل معه النقد وبالتالي يقع المثقف في دائرة التهميش والقمع.
إن السلطة السياسية من صالحها إيجاد مثقفين خياليين ومثاليين حتى تُتهم بعدم الموضوعية والواقعية، وفي غياب الحريّة والمثقف الغيور، أصبح المثقف في نظر الناس بائعاً للأوهام لمخالفة ما يقول عما يتم على أرض الواقع، وانقلبت المفاهيم، فالذي يريد أن يحرر الناس يستعبدهم والذي يريد تنوير العقول أصبح هو الحاجب للحقائق عن العقول. إن في غياب القانون الذي يحمي المثقف وهو يمارس عملية ضبط ومسار الحركة السياسية جعل المثقف يعيش وفق ظاهرة التقية الفكرية والسياسية، فهو يتقرب من السلطة بدافع الحماية في ظل غياب دوره الحقيقي أو وجود قانون يحميه أو يستجيب لهوى نفسه في تسنّّم مناصب اجتماعية رفيعة.
لقد أصبح أكثر المثقفين يتطلعون إلى الموقع الاجتماعي بدلاً من الحقيقة والهم المعرفي.
إن هناك من المثقفين من يؤثر الاستقلال حتى لا يتصادم مع السلطة السياسية وحتى لا ينتقل في حالة الرفض من السجن الكبير إلى السجن الصغير.
إن في تراجع الثقافة تراجعاً للسياسة وظهور السيطرة الكاملة لرجال الأعمال والسماسرة وتحول العصر إلى عصر الاستهلاك وعصر تراجع القيم وتراجع الأفكار كقيمة بحد ذاته.
المثقفون والتطبيع
إن مقولة التطبيع الثقافي هي نسخة جديدة لمقولات قديمة تلهّى بها المثقفون العرب دوماً من الزمان كالإمبريالية والاستعمار والرجعية والصهيونية، وهي مقولات ترجمت لنا على الأرض انهيارات وكوارث.
إن الأولى بالمثقفين أن يهتموا بالمسألة الثقافية لا بالتطبيع الثقافي، من خلال أن يسأل المثقفون أنفسهم:-
- أين هو موقعهم في صناعة القرار في بلاد العروبة والإسلام.
- أين هي مراكز دراساتهم وجامعاتهم في عملية إنتاج الثقافة والمعرفة، وبالمقارنة مع مراكز إسرائيل وجامعاتها.
- أين هو نتاج البحث والإبداع، نشراً وتوزيعاً وتداولاً وأين هي العوائق؟ وما السبيل إلى حلها؟ وما موقف الاتحادات والروابط الثقافية من الرقابة والمنع والضبط؟
- ما هو الفرق والخلل بين سلطة خطاب المعرفة وبين سلطة المال والسلطان القائم؟ وكيف يمكن ردم الهوة بينهم جميعاً؟
إن التطبيع فعلٌ من أفعال السلطة السياسية، لا من أفعال المثقفين على اعتبار أن التطبيع ليس المقصود منه الاطلاع على الثقافة اليهودية فهذه موجودة بين ظهرانينا من كتاب، تلفاز، إذاعة وتراث بقدر ما هو متعلّق بتغيير التاريخ وحقائقه وتهيئة جيل مستعد لقبول هذه الحقائق المقلوبة وهذا يعني تغيير المناهج وكتب الدراسة في مؤسسات الدولة ومراكز التعليم والتربية فيها، وتهيئة مؤسسات ثقافية لها أبواقها الرسمية تهيء من خلالها البنية التحتية لغايات قبول مثل هذا التغيير لدى الناس والمجتمع، وهذا النوع من التطبيع هو التطبيع القهري أمّا ما نرى من سلوكيات بعض المثقفين فهو من النوع غير القهري ولا أثر له في حياة الناس.
إن ما يجري بين المثقفين من معارك فرعية حول مسألة التطبيع هو تحويل الانتباه عن السلطة السياسية وعن أفعالها وعن الأفق الذي يُرسم للمنطقة وإنها سبيل البعض الى الاستقواء في المجال الثقافي، حيث لا حظّ لهم من الثقافة ولا نصيب.
إن الثقافة التي تفكك أواصر المجتمع وتبث ثقافة الفتنة وثقافة الحروب الأهلية وتحريك الأحقاد الدفينة في العلاقات التاريخية، هذه هي ثقافة التطبيع. إن الخوف ليس من التطبيع الثقافي، بقدر ما هو الخوف من التطبيع السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني.
إنّ خوف المثقفين من مواجهة مسؤولياتهم في فهم مجريات الأمور واستشراف واحتمالات المستقبل جعل المثقفين يرددون فكرة التطبيع الثقافي. لقد تطبّع المجتمع مع الحالة السياسية في قمع المثقف، فغدا المثقف شاهداً على الموت والشلل التام للمجتعات العربية والإسلامية.
إن مسؤولية التردي السياسي والفكري والحضاري القائم تقع على مسؤولية السلطة السياسية، لذا لا بد من مراجعات واسعة للبنى السياسية وسبل فكفكتها وتجاوز سلطاتها التي قادت بنا لمثل هذا التردي. إن الثقافة القويّة المزدهرة بالإبداع والإنتاج في أيّ مجال من مجالات الحياة والاجتماع والفكر تمتلك القدرة على التأثير والانتشار، وإن شئتم فاسألوا التاريخ عن الثقافة اليونانية والثقافة العربية الإسلامية.
إن الثقافة العبرية لا تمتلك الطاقة التي تمتلكها الهويات الثقافية الكبرى، وإن واقع الثقافة العبرية المرقع القزم لأصغر من أن يصمد في وجه ثقافتنا ذات التاريخ الطويل، ولكن أكثر المثقفين لا يعلمون.
* عضو سابق في مجلس النواب الأردني