كان أحد الثلاثة الذين سبقوا لتعلم لغة بريل Braille- والآخران هما: الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين والشيخ علي السويد في أوائل «السبعينيات الهجرية»، وعرف خلالها الطباعة على الآلة الكاتبة عبر هذه اللغة؛ فعاش التحدي ولم يعشَ به، ومذ كان يافعًا وهو على يقينٍ أن البصيرة تغني عن البصر؛ فدرس ودرَّس، وعلم وعمل، وسافر للطلب، وحقق المخطوطات، وبات عَلَمًا في فنه، ويراه تلاميذه أحد نحاة هذا العصر.
أجمع مريدوه على تميزه المعرفي والسلوكي، وأكد زملاؤه حكمته ورزانته، واتفق مَنْ تحدثوا ومَنْ علَّقوا على تكريمه في قسم اللغة العربية - بعد ترجله - على انضباطه في الوقت وسعة صدره في المناقشة وهدوئه في التعامل ورعايته لأبنائه وبناته الذين برز منهم العميدُ والأستاذ والمحاضر والمعيد والمعلِّم والموظف؛ فكان حفيًّا بهم وبقُوا أوفياءَ له.
قبل ربع قرنٍ استضافه صاحبكم لصفحة «قراءة في مكتبة»؛ فزانه صمتٌ في زمن الصخب، ووقارٌ في وسطٍ مهذار، وتواضعٌ بين المدعين، وبقي مترفعًا على «الذاتيَّة» المقيتة التي صيَّرت بعض زملائه يتكررون دون إضافات فلم تزدهم الأضواءُ بريقًا، وقد حفظنا أنْ «ما كلُّ ما يلمعُ ذهبا».
لم يسعَ إلى الإعلام مثلما لم ينأَ عنه؛ فحكى حين وجب القول، وتوارى منصرفًا للبحث، ووجد في منحنيات «ما» و»مَنْ» وصحبة «ابن مالك والدماميني» ما لا يأذن بوقت يقتطعُه، ومن عرف مسالكَ النحو أدرك متاهاتِه، ومن ظن فيه الملل والجمود فقد فاته ما يجده النحاة من متع الإِعراب ومُلح الأَعراب ووجوه التفصيل وتأويل التفضيل وبيان العِلل وتدوين الخلل، وبمثل هذا يفوقُ القادرون ويأنسُ المحبون ولمثله يتنافسون.
سيبقى عِلْم النحو عصيًّا على التطوير والتغيير، وسيظل علماؤه مسكونين بهواجس الخوف عليه والدفاع عنه ضدَّ دعاة التيسير المشتبه بكسر الأصول وتخطي الفروع والتساهل أمام اللحن والتوسع في القواعد والوقوف في محطات السكون «المسالمة»، ومعهم بعضُ حق؛ فقد بلغ التجاوزُ مداه، وطال اللحنُ أساتذة الجامعة ومسؤولي التعليم وجماعة الإعلاميين من إذاعيين وكُتَّابٍ وصحفيين، وصار مقيّمو ألسنتهم ندرةً، وانتفت لغة «قنِّع عاملك سوطًا» و»عجبتُ لهم يلحنون ويربحون».
لكن الوجهة الأخرى المقابلة تتمنى من شيخنا وتلاميذه إعادة النظر في أساليب تعليم اللغة، وعهدنا في برامج تعليم اللغة الإنجليزية مَنْ يهتمون بأساليب القول دون الاستغراق في قواعد النحو؛ فالجُمْلة تصاغ وَفْق الماضي والحاضر والمستمر والغائب والبسيط والمبني للمعلوم والمجهول والصفة والحال؛ فيعتادها الناشئ بالتكرار والممارسة دون أن يحفظ القاعدة أو يفهم خلفياتها النحوية.
وقد وعينا - قبل سنين طويلة - حوارًا ممتدًا بين شيخنا الجليل والدكتور أحمد الضبيب حول تقديم القاعدة على المثال أو العكس، ويبدو أن الأجدى بالنظر - اليوم - إجابةُ استفهام جديد؛ فهل من المهم أن يعرف الطالبُ مبررات رفع ألفاظ العقود ونصبها وجرها - على سبيل المثال - أم يعتادَها عبر الجُمَل التي تبتدئ باسمٍ أو فعلٍ أو حرفٍ وينسجَ على منوالها.. وهكذا في سواها..؟
الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن المفدى (أشيقر 1357 هـ) انتقلت أسرته إلى شقراء حيث التحق بالكتاتيب ثم إلى الرياض فتعلم على يدي الشيخَيْن محمد وعبد اللطيف ابني إبراهيم - رحمهما الله -، وواصل في «دار التوحيد» بالطائف، فالمعهد العلمي بالرياض، وواصل تعليمه الجامعي والعالي؛ فكان الأول على الدفعة الأولى من خريجي كلية اللغة العربية (1377هـ)، وأمضى قريباً من عشرة أعوام في جامعة الأزهر حتى أكمل درجتي الماجستير والدكتوراه (1396هـ)، وله في قضايا النحو تحقيقاتٌ ومصنفات، كما له في لجان العِلْم والتحكيم إسهاماتٌ ومرئيات.
النحويُّ «بحر محيط».
-