كثيراً ما يحدث اختلاف الآراء عندما يدور حوار ثقافي يجد فيه الحضور قواسم مشتركة تجمع أطرافه في أمسيات تشكلها العلاقات الروحية بين نخب من المبدعين التشكيليين قد يخالطهم بعض من أصحاب القلم والقصيدة أو المقالة فيتحول مثل هذا الاختلاف إلى أسباب تثير الجدل حول فكرة أو وجهة نظر ينتهي إلى مصالحة واتفاق على نتيجة مشتركة، وإذا أخذنا الحيز الخاص بالتشكيليين فإن أهم ما يمكن أن يثار يتحدد في تجربة من تجارب أحد الحضور أو حديث عن جديد الساحة وقد يكون الهم الأبرز في ما يجب التعامل به حيال الحداثة وما طرأ على الفن من تحولات في الشكل والمضمون والابتعاد عن المتعارف عليه في اللوحة المسندية أو قطعة النحت وصولا إلى مرحلة الطيف السريع الذوبان الذي يحدث أثرا دون أن يبقي جسدا عبر النتاج الفلمي في الفيديو ارت أو ما يتم من أعمال تنتهي بنهاية العرض مع ما تلعبه عدسة الكاميرا من اقتناص لزاوية تمثل حكاية وتوثق موقف، هذا كله لا يمكن نفيه أو الاعتراض عليه أو تجاهله فتسارع التطوير لم يعد متيحاً الفرصة للتأمل والإعجاب بقدرات تقنية بل إلى تجاوزها نحو الفكرة والمعنى وما وراء المعنى.
ومن تلك الحوارات التي تأخذ حيزاً كبيراً عند من نلتقي بهم من أصحاب الخبرات الطويلة في الساحة المستجيبين للجديد والمتعاملين مع ديناميكية ذلك التطور يضعون التجربة والمحاولات تجاه التغيير والتطوير نصب أعينهم ويمكن القول إن من بعض تلك الحوارات ما وضع بعض التشكيليين تحت مجهر المتابعة والترقب لما يمكن أن يحدث من تواصل واستمرار في النجاح أو ارتجاع وتوقف.
من هنا يمكن لنا أن نلج في موضوعنا لهذا اليوم في محطاتنا التشكيلية التي نجعل فيها الفنان فهد الحجيلان المتميز خلقا وإبداعا نموذجا للفنان الصادق العارف لما يقوم به وما ينتهي إليه، كما يرى فيه هؤلاء المتابعون محلياً وعربياً، عرفت الزميل فهد مع بدايات خطواته الأولى حاضرا بقوة الوعي والإلمام والبحث من خلال اللوحة، ألوانا وخطوطا شكّل بها مسيرته التي لا يمكن أن يشابهها تجربة على الأقل في محيطنا المحلي والخليجي، فكان له بذكائه وموهبته مشاركة الكثير من الأسماء الكبيرة والرائدة في الساحة المحلية، يسابق الزمن بتجارب يعلم متابعوه أنه بالفعل متفرد لا يكرر نفسه بقدر ما يلفت النظر بالجديد في كل معرض خاص كان أو بما يشارك به في معارض جماعية، امتلاكه القدرة على الرسم الأكاديمي ومن ثم انغماسه في التعبيرية وإبحاره في التعبيرية أوجد لنفسه بالتة (لوح التلوين) خاصة لا يجاريه فيها فنان محلي تجاوز بها المحيط القريب إلى المحيط الأبعد عربيا وصولا إلى أعين العالم فكان الرأي كما سمعته من محكمي مسابقات السفير التشكيلية، الأجانب أصحاب الخبرات منهم أو العرب المخضرمين المقيمين في دول عالمية تعج بالفنون فكانوا للحجيلان المحكم والحكم على ما وصل إليه إبداعه من أهمية.
الإنسان منطلق إبداع الحجيلان
لم تكن وجوه الفنان الحجيلان في هذا المعرض الذي خصصه لهذا الجانب هي الأولى، فللحجيلان تجربة طويلة في التعبير عن المشاعر الإنسانية تظهر أحيانا في معارضه أو مشاركتها منذ انطلاقته بشكل موجز أو قليل، بينما في هذا المعرض جمعها ليقول كلمته وينقل مشاعره عبر كل الملامح مهما اختلفت أو تعددت إيحاءاتها التي تخفي أكثر مما تظهره تاركاً للمشاهد البحث في أعماق كل الوجوه، يثير الفنان الحجيلان في معرضه كثيراً من الأسئلة فالوجوه لم تكن لأشخاص معينين بقدر ما يترك للزائر أن يتعامل معها حسب مختزله وذاكرته البصرية الخاصة لعله يجد في أحد هذه الوجوه ما يعيد له شيئاً من ماضيه، جمع الفنان مختلف المشاعر، الحزن والفرح، الاشتياق والكره، الحنان والبؤس، السعادة والشقاء، يضع بها أيدينا على جروح غائرة تسببت فيها كثير من الأقنعة الزائفة التي تشكلها وجوه بعض من نراهم في حياتنا ونتعامل معهم.
ورغم أن كثيراً من التشكيليين على المستوى العربي والعالمي قد مروا بتجربة رسم الوجوه إلا أن في تجربة الحجيلان التي بدأت ملامحها مع أول خطواته كان فيها الوجه الإنساني (وخاصة المرأة) جزء من كل مرحلة من مراحل إبداعه تاركا لكل من يشاهدها تفسير ما توحي به طبقا لمختزل وفراسته فقد يراها حزينة أو منكسرة أو يشوبها ما في النساء من كيد عظيم، وجوه تصيب الهدف وأخرى تثير التساؤل وتبعث لدى المشاهد لها فضول التحديق بحثا عن معنى نظرة هنا وابتسامة باهتة هناك وأخرى مثيرة في زاوية من زوايا المعرض اختزل في إبداعاته كل تفاصيل الوجه فماً أو أنفاً وأعينا كثيرة تحرك الساكن وتشعل الذاكرة.
إعجاب يوثق حقيقة نجاحه
في معرضه الأخير الذي حمل عنوان (عصفور البرد) الذي افتتح الأسبوع الماضي في اتيليه جدة حقق الحجيلان إضافات جديدة في توثيق نجاحه وتميزه من كثير من زواره توجتها الأميرة أضواء بنت يزيد بعد افتتاحها للمعرض بعبارتها الأجمل قائلة: (إن معرض الحجيلان يعد واحداً من أفضل المعارض التي شاهدتها في الساحة التشكيلية السعودية إذا لم يكن الأفضل بالفعل، وأشارت أن الفنان يمتلك البراعة اللونية رغم اقتصاده في اللون واعتماده على دائرة محدودة من الألوان يأتي في مقدمتها الرماديات وجميل أن تكون المرأة هي المحور الرئيسي في كل أعماله، وأضافت الأميرة أضواء أن أكثر ما لفت انتباهها هي المسحة التعبيرية على الوجوه والتي تنطق بالفعل بصدق تلقائي).
مع ما أضفاه الناقد المصري المعروف محمد كمال بقراءته المستفيضة عن علاقة تسلسل أحداث حياته وتنوع مواقع مراحل عمره على إبداعه نستخلص منها هذا المقطع حيث يقول الناقد كمال: (يميل من خلال أدائه بالألوان الزيتية على التوال للتكثيف في بناء ملامح الوجوه، بالبعد عن المحاكاة الواقعية والضوابط التشريحية والتفاصيل البنائية، ليصل إلى حالة تصويرية يقترب فيها من مزيج بين تصاوير الكهوف البدائية القديمة ورسوم الأطفال، عبر جمع واع بين العفوية الفطرية والرصانة الأكاديمية).
نرفق في موضوعنا اليوم عدداً من لوحات مبدعنا الحجيلان في معرضه الأخير إضافة إلى ثلاث لوحات من تجاربه الأولى اثنتان نفذهما عام 1406 هـ وضمها الإصدار الأول لمكتب التربية العربي لدول مجلس التعاون ضمن مجموعة من التشكيليين الرواد اختيروا من مختلف دول المجلس. كما نرفق أحد الأعمال التي نفذها الفنان في مرسم جمعية الثقافة والفنون عام 1403هـ.
-
monif@hotmail.com