كان مضيفُنا الأول سماحةَ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - عليه رحمة الله - وكنا مجموعةً من طلبة المعهد العلمي في عنيزة بإشراف أستاذنا الشيخ الدكتور عبد الله الحمد الجلالي - حفظه الله -، ولا يعي صاحبكم من تلك الرحلة سوى جلوسِنا على مائدة الغداء مع الشيخ الجليل في منزله بعد زيارة «الجامعة الإسلامية» التي كان - إذ ذاك - نائبًا لرئيسها، ثم لا يذكر شيئًا غيره.

تكررت الزيارة بعد عقود؛ فلم يكن وكثيرون سواه يعلمون عن هذه الجامعة «الأممية» غير موقعها، ربما بحكم طبيعتها الموجهة للخارج، وربما لأن مديريها لم يأبهوا بالانفتاح على ذوي القربى، وربما لأن ذوي القربى أنفسهم غيرُ معنيين بأنشطة الجامعة وبرامجها، لكن الحال - منذ أربعة أعوام - تبدل كثيراً.

تلقى صاحبكم دعواتٍ كثيرةً خلال هذه الفترة لزيارة الجامعة وحضور أنشطتها، وما كانت دعواتٍ مكتوبةً فحسب؛ بل هاتفية لا سكرتير أو موظف علاقات يتوسطها؛ فمن رقمه الخاص ووقته الخاص وأسلوبه الخاص يجيء كغيمةٍ هتون يسألك عن نفسك وناسك، ثم يرجوك تلبية رغبته في استضافة الجامعة لشخصك، وربما تتوهم حينها «أنك جرم كبير» ثم تدرك أنه الكبير لأنه يرى الآخرين كباراً، وليته يعطي دروسًا عمليةً لذوي البشوت واليخوت الذين يظنون أنهم كما يمتلكون مفاتح البنوك فإن لديهم مفاتح القلوب، وما دروا أن العلاقات الإنسانية المجردة أقوى وأبقى وأنقى.

تحسب أنك وحدك صديقُه؛ فإذا الناس كلهم أصدقاؤه، وتتجاوز الشخص إلى النص؛ فتدرك أن الجامعة الإسلامية قد تطورت وتغيرت بشكلٍ يشبه التحول الجذري خلال سنوات إدارته، وهي في عمر المؤسسات قصيرة، كما هي صعبةٌ في المنظمات المستقرة بأنظمتها ولوائحها وبنائها الهيكلي المواجه للغة التحديث والتبديل، وما أيسر أن تنشئ جهازًا جديدًا، وما أقسى أن تَقدُم على جهاز قائم فتحدث ثورةً إداريةً داخله إلا إذا كنتَ من ذوي العزم والحزم والنهى.

مقاومة التغيير «السلبية» معضلةٌ تواجه القائد الإداري المتطلع للإصلاح، وقد تنسف مشروعه الطموح، لكن هذا المدير استطاع أن ينفذ برامجه بمؤازرة تكادُ تكون تامة؛ فهدفه نبيل، وأسلوبه جميل، ونهجه معتدل، وما تم في أعوام يعادل ما جرى خلال عقود.

لم يحفل صاحبُكم بالحدث الذي دعي له؛ فقد حضر الافتتاح وشطرًا من الجلسة الأولى فقط، لكنه قابل كثيرين في الجامعة وخارجها، وكان صوتُهم واحدًا في الثناء على الرجل: وعيًا وإخلاصًا وتواضعًا، وقد فاجأ القادمين إلى المطار مستقبلاً إياهم بهيئة بسيطةٍ وروح كريمة، ويتناقل الناس هناك حكاياتٍ نادرة عن وجود مسؤولين بمثل خُلقه؛ حتى إنه لا يفرق بين وزير وغفير؛ فلكليهما حظوته، ويقال إن رقمه الشخصي لدى طلبة الجامعة، وفي المناسبات الكبرى التي يتركز الاهتمام فيها على فئة بعينها يرجئ تناول الطعام حتى يفرغ ضيوفه ثم يقتعد بجانب صغار موظفيه ومستخدميهم فيأكل مما يأكلون، وفي مناسبة الجامعة القريبة حدّث من حضر حفل الغداء بأنه كان يدور بين الطاولات ليفتش عن كراسٍ فارغةٍ ليوجه لها الطلبة المدعوين للقاء، واستوقفه سائق سيارة أجرة داخل حرم الجامعة مستوضحًا مكانًا فيها ولم يفهم وجادله فظل معه لم يتبرم ولم يشر إلى غيره ليُفهمه؛ فأي مرتبةٍ ممتازةٍ يسكنها؟ وكم هم الذين يَسَعُون الناس بأخلاقهم؟

الأستاذ الدكتور محمد بن علي بن فراج العقلا (1959م - مكة المكرمة) يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي من جامعة أم القرى التي عمل فيها معيدًا ومحاضرًا وأستاذًا مساعدًا فمشاركًا فكاملاً، ورئيس قسم وعميدًا ووكيلاً حتى عُيّن مديرًا للجامعة الإسلامية (ربيع الأول - 1428 هـ)، وفي لغة الخطاب السائد بين شباب الجامعة تخوف من انتقاله عنهم بعد شهر وأيام حين تأتي مواعيد التجديد والتمديد.

الرقي تعامل.