بعد عشر سنوات من عمر ثلوثية الدكتور محمد المشوح، أجد نفسي سعيداً أن أكون حاضراً في الجو الثقافي والأدبي ؛ لرجل يُعَد من أبرز العلماء الباحثين في المملكة. - وحسبي - أنّ صاحب الأمسية، رجل طموح ينشد العلم والمعرفة، كما ينشد التطوُّر والتقدم، وهاتان سنّتان من سنن الطبيعة الإنسانية.
لا تستطيع أن تغفل فكرك عن مسيرة رجل حباه الله هيئة وقورة، وسمة حسنا، وحباً للعلم. فتاريخه يحكي تفاعله مع الدرس والمحاضرة، وإشرافه على الرسائل العلمية، وفحصه بحوث الترقية وتقويمها في جامعات المملكة. إضافة إلى إسهامه في التأليف، والتحقيق، وتطوير صناعة الكتاب. وإسهامه في الكتابة في الصحف والمجلات. وإسهامه في مجال الإذاعة والتلفاز.
- لا شك لدي -، أنّ - الدكتور - عبد العزيز قد تلقّى إعداداً أكاديمياً مميزاً، جعله متخصصاً في كتابة الأدب الجاهلي. واعتمد منهجاً علمياً - أدبياً وتاريخياً -، في الوصول إلى الحقيقة. وقدم دراسات عديدة، ونتاجاً غزيراً، تميّز بالدقة والتحليل في دقيق المسائل وعظيمها. فهو يعتمد الوثائق، والمصادر العلمية في توثيق كتاباته. وهنا يبرز دور المثقف بوضوح شديد، فالدكتور معروف بحبه للبحث والنظر، وتقليب وجوه الرأي. ولا أبالغ إنْ قلت: إنه يُعَد واحداً من قلة قليلة في السعودية، جمع بين رحابة العلم وجدليته، مكّنته من تبوء مكانة علمية متميزة.
كان أبرز ما تميّز به ضيف الندوة، أن نظم المادة العلمية المطروحة، بتنظيم تسلسلي منطقي، أعطى أهمية كبيرة للموضوع. من خلال مساراته الثقافة في حياته العلمية والعملية. - فالدكتور - يحمل منهجاً أصيلاً في مجال التحقيق والتأليف، ويملك الخبرة والحس في هذا الفن، عن حب ورغبة وهواية. استطاع خلال تلك الفترة أن يستخرج المزيد من المخطوطات، وينفض عنها غبار الزمن، ويظهرها إلى عالم الوجود ؛ ليكون طرفاً نشطاً في العملية الأدبية. كما استطاع أن يؤكد على رسالة مهمة، وهي: أن الأمة التي لا تهتم بتراثها وماضيها، لا يمكن أن تبني حاضراً مضيئاً، ومستقبلاً مشرقاً، فالأولوية - دائماً - للقيمة العلمية. وهو ما يكشف بكل وضوح عن أصالة فكره، وتنوع ثقافته، وتبحره في العلوم الأدبية، أسهمت في تحرير موسوعات ومؤلفات عديدة، بلغت سبعة عشر كتاباً مطبوعاً، وديوان شعر مخطوط لم يطبع.
تحدث محاضرنا عن أهم مسار من مساراته الثقافية، وهو: التفاعل بين الطالب والمحاضرة العلمية. وهو ما يؤكد: أن الوعي الكامل بأهمية التعليم، هو جزء مهم في حياة الطالب. وأنّ المطلوب هو توجيههم؛ للوصول إلى الأثر العلمي عن طريق تنظيم المحتوى، ووجود المنهج الدراسي، والمحاضر. وتوجيه المتعلمين - أيضاً - ؛ لتحقيق التفاعل بين الطالب والمعلومة، وتهيئتهم - نفسياً وعلمياً - في المقرر الدراسي. فهم محور العملية التعليمية، والعنصر الأكثر نشاطاً.
لم يكن يعنى محاضرنا بالجانب المعرفي من التعليم - فقط -، على الرغم من أنه كان يقضي الليالي والأيام، منهمكاً بين الكتب والمكتبات، إلا أنه تجاوز ذلك إلى الجانب الانفعالي والوجداني والاجتماعي ؛ من أجل تحقيق التفاعل بينه وبين زملائه، وتحقيق التواصل معهم، عن طريق الاجتماعات الدورية في منزله. وهو ما أكده عنه رفيق دربه - الدكتور - محمد الربيع.
زهد - الدكتور - عبد العزيز في المناصب الإدارية، تأكيد للفكر الراقي الذي يحمله، فالمنصب تكليف، وليس تشريف. فحرص على الاقتصار على مهام العالم والمربي - فحسب -، طلباً في مواصلة التحقيق والتأليف، وإيثاراً لراحة البال، وسلامة الضمير، فكان خير معلم ومرب لطلابه. وقد حدث عنه - الدكتور - محمد الربيع، أنه: «كان زاهدا في المناصب القيادية، تلك التي أضاعت عنا الوقت، ولم تجعلنا نتفرغ للبحث العلمي». فاختار أستاذنا أن يستضيء بنور التخفيف من زينة المناصب، والتلطف في الأخذ من متاعها، ولم تبهره بهرجة المسؤولية، بل اختار أن يكون قريباً من طلبته، قريباً من البحث العلمي، الذي هو أساس التطوير، بتراكم ما يقوم به من أبحاث ودراسات ومؤلفات، ويكفيه فخراً أن أنجز هذا الكم الهائل من المؤلفات. وإضافة إلى هذا النوع من الزهد، هناك زهد آخر، أبانه الأستاذ: بندر الصالح، بأنه: «كان زاهداً في الأضواء». وتلك هي معادلة الزهد الصعبة، التي يقع فيها كثير من الناس بين كماشة شطريها.
حين سئل عن كشف شيء من معاناته من خلال رحلاته، التي كان يقوم بها ؛ لتحديد الأماكن. وهي هواية مستمرة معه إلى اليوم، حدثنا عن رحلته إلى القصيم ؛ لزيارة جبل «خزاز»، وفوق الجبل صخرة عظيمة في أعلى قمة «خزاز». وتمكن من الصعود على الجبل، بعد أن انسحب من كان معه حين وصل ثلثيه، أو نصفه. مما يؤكد، على أنه: كان لا يكتفي بالروايات، والوثائق الواردة عن المكان، بل لا بد من الوقوف على تلك الأماكن، ويدوّنها وفقاً لاجتهاده، وهذا ما يتماشى مع ضرورات المنهج العلمي في تفسير الأماكن والأحداث.
أجمع كل من شارك في تلك الأمسية: أنّ الرجل عظيم الأدب مع طلابه، يتغافل عن أخطائهم وزلاّتهم ؛ تكرماً، وعن سفاسف الأمور وصغائرها ؛ ترفعاً. كما كان كثير الصمت، لا يتكلم إلا بفائدة، وإن تحدث فبصوت منخفض. ولم يسمع عنه أنه تحدث في ما لا يعنيه، أو اغتاب أحداً - يوماً ما -، بل كان يدرأ عن ذوي الهيئات عثراتهم. حتى قال عنه أحد طلابه - منذ - ثلاثين سنة، وهو - الدكتور - سعد العليان: «إن له أثراً كبيراً جداً على تلاميذه».
هناك أسئلة متعدّدة أثيرت من بعض الحضور، كعدم تواصله كثيراً مع الفعاليات الثقافية الحديثة ؛ لتخصصه في الأدب الجاهلي، وأن لديه شيئاً من الانطواء. فكانت إجابته، أنّ: «من طبيعة الشيوخ التراخي، ومن طبيعة الشباب المبادرة». فعلمت يقيناً أن مثل هذه النخب، تتواصل مع الآخرين قطعاً، لكن دون انعزال مطلق، أو انكباب مطلق.
في نهاية المطاف، لم يحرمنا محدثنا من أشعاره ومقالاته، ونحن جالسون أمام جسمه النحيل. فاستحضر من ذاكرته قصيدة كتبها بسعة أفقه الجميل، بعنوان: « تحية للوطن «، ومقالة، بعنوان: « أطلال منفوحة تناجي الأعشى». فباركنا سطره الذي عانق بصمته، كما باركنا فكره الذي شارك إبداعه.
إني لأرجو أن يتفرّغ ابنه «محمد»؛ لكتابة أطروحة علمية عن والده، وعن إنجازاته العلمية والعملية، مع ضرورة تضمين الأطروحة، نماذج من كتاباته ومراسلاته ؛ ليمتد أثر تلك الكتابات والمراسلات على الحياة العلمية. فهو رجل متعدّد الأبعاد، يستحق الذكر والتكريم.
هذه شذرات من معين يعج بمناقب عالم، تميّز خلقاً ومسلكاً، عفة وشرفاً. فقد شاء القدر أن يدركنا الوقت، فغادرت المكان بعد أن اجتمعنا على حب رقيق، في أمسية خريفية دافئة. وقد توشحني الفرح حين عزمت كتابة هذه المقالة ؛ لشخص ضحى بوقته وصحته، في سبيل أن يكون شريكاً للنجاح.
drsasq@gmail.com